لم تسمع أم حسن المحاصَرة بالموت الإسرائيلي في ضيعتها مارون الراس الأخبار، فالكهرباء مقطوعة، وكذلك المياه والطرقات والهواء الذي بات خليطاً من دخان القذائف والصواريخ والحرائق التي تلتهم البيوت وأحواض الورد وأشجار الغابات التي طالما عطّرت النسمات بشميم منعش.
لم تسمع أم حسن أن مصيرها بات مرهوناً بمؤتمر أمرت بعقده واشنطن في روما بعد أربعة أيام، ليقرّر ما إذا كانت ضيعتها مارون الراس تليق بالشرق الأوسط الجديد أم أنه لا بد من تدميرها على رؤوس أهلها ومحوها تماماً لأن الشباب صمدوا فيها وصدوا هجمات جيش القتل الإسرائيلي الذي لا يقهر، على امتداد خمسة أيام بلياليها.
هموم أم حسن تنحصر الآن في مسألة واحدة: هي لن تتزحزح من ضيعتها. هي لن تغادر بيتها المعطر بأنفاس عائلتها جميعاً، من رحل منهم إلى جوار ربه ومن بقي وما بدلوا تبديلاً. لن تخرج من جلدها. هي مغروسة في الأرض كتلة مارون الراس تماماً. أكثر ما يمتعها أنها في صباحات أيامها تطل على الأرض المقدسة التي لا اسم لها عندها غير فلسطين. هي تعرف بالتجربة التي تفتح عليها عينيها كل يوم أنها إن خرجت من بيتها خرجت من حياتها، من الجغرافيا، من التاريخ، كأنها لم تكن.
لا تريد أم حسن أن تسمع كثيراً عن هذا المؤتمر الدولي الذي ينعقد والنار الإسرائيلية تلتهم القرى والبلدات والمدن، المدارس والمستوصفات والبساتين التي رواها عرق الجباه وزنود الرجال.
أيتركون النار الإسرائيلية تحرق الأطفال والنساء والشيوخ، الماضي بذكرياته الثمينة والحاضر بمجد التحرير والمستقبل الذي كانت تراه أم حسن يتنامى مشرقاً في أحفادها، ويذهبون إلى مؤتمر الداعي إليه هو راعي الإسرائيلي والحضور قسمان: بعضهم شركاء في الجريمة وبعضهم شهود زور لطمس أصل القضية وجوهرها… ولا ضمانات إلا ما يضمن لإسرائيل السلامة والهيمنة؟
لم تعرف أم حسن أن هويتها قد تبدلت. هل سيبقى لمارون الراس اسمها؟ وعيترون ويارين وعيناثا وصولاً بالشعر إلى بنت جبيل؟! لقد بدّلوا اسم فلسطين بعدما اقتلعوا منها شعبها ومنحوها بالقوة لغير أهلها، فصار اسمها إسرائيل.
هل هذا ما يدبّر لمصر وسوريا والأردن والعراق وصولاً إلى أرض النبوة ومحيطها؟ هل ستغدو كلها بلا أسماء، بلا تاريخ، لا تعرف إلا بموقعها من إسرائيل وموقع إسرائيل فيها؟
هل عندما يلتقي الكبراء من الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين وجماعة الاتحاد الأوروبي والروس والمصريين والسعوديين في ضيافة إيطاليا، وبحضور شاهد الزور الذي طالما خيّب آمال أم حسن ، الأمم المتحدة، سيقرّرون الاسم الجديد للبنان كله ومدنه وقراه جميعاً، أم سيكون مصيره ما صارت إليه فلسطين؟!
وطالما أن المؤتمر ليس معنياً بوقف إطلاق النار التي تلتهم المدن والقرى والحساسين والفراشات والآمال وأحلام الشباب والصبايا الذين يجتهدون لإعادة بناء وطنهم الصغير هذا، الكبير بأهله وبعروبته وبمجد التحرير، فلماذا يحضره إذن المصريون والسعوديون؟!
إذا كان هؤلاء الأشقاء قد عجزوا عن منع الحرب، ثم عجزوا عن نجدة لبنان وحمايته، ثم عجزوا برغم كل ما يملكون من أسباب القوة والتأثير والعلاقات (الحلال منها والحرام..) عن وقف إطلاق النار الإسرائيلية عليه، فلماذا يشاركون في هذا المؤتمر الذي سيزوِّر الحقائق جميعاً، وسيظهر الضحية جانياً والجاني ضحية ويعوّضه ويكافئه على ما أنجز؟!
أم حسن لا تسمع الأخبار. ولكنها تعرفها. تعرف أن هؤلاء الشباب الذين طالما حموا مارون الراس، وهي التي تعرضت للاحتلال الأول 1976، فحرّرها شبابها بعد يوم واحد، ثم احتلت مرة ثانية بعد عامين، ولكن شبابها ظلوا يجاهدون حتى حرروها في العام 2000، لن يتخلوا عنها اليوم، ولن يتركوها للقتل الإسرائيلي الذي سيحظى الآن بتغطية دولية وقناع عربي، بذريعة استئصال الإرهاب…
أم حسن هي عالمة علامة في شؤون الإرهاب. إنها تراه كل يوم منذ أيار 1948. وهي تابعت تمدده كالسرطان. تعرف كيف قتل الأهالي، جيرانها، وكيف أجبرهم على الرحيل وليس معهم من بيوتهم التي لن يعودوا إليها إلا المفاتيح… وهي لا تريد مفتاحاً تعلقه في رقبتها ولا بيتاً، بل هي قرّرت من زمان أن بيتها حياتها تبقى فيه ولو تحت ركامه. إنها تعرف وتعي وتتذكر أن أبناء جيلها ممن جاءتهم منيتهم خارج مارون الراس لم يسمح لهم الاحتلال بأن يدفنوا فيها. لها إذن، وليس لمؤتمر روما، أن تقرّر أنها في بيتها ومع بيتها ومن بيتها، يبقى لها أو تدفن فيه.
أم حسن باقية في مارون الراس. لا الضيعة ستغادرها ولا هي ستغادر الضيعة، فالشباب في الجهات الأربع، من حولها. إنها تحس بأنفاسهم على وجوههم، وتكاد تلمح وميض عيونهم وهم يتحفزون لتدمير دبابة أخرى… وهي لا تفتأ تردد الأدعية واثقة من أن الله يسمعها، حتى لو لم تقف على رأس الجبل.
أم حسن تصدق السيد . وهو قال إن مارون الراس ستبقى، وإن رأسها سيبقى مرفوعاً، قبل روما وبعد روما.
نشرت في “السفير”، 22 تموز 2006