هي جريمة العصر، لكن لا تستطيع هذه الحكومة، أو أي حكومة أخرى، أن تتعاطى مع انفجار 4 آب/أغسطس على أنه جريمة، سواء كانت حاصلة عن إهمال مقصود أو غير مقصود، وسواء كانت متعمدة أم لا.
هذه الجريمة هي نتيجة حتمية لنظام لا يعتبر الناس مرجعيته. ولا يكترث لهم؛ نظام من الإهمالات والارتكابات التي تؤدي حتماً الى ما أدت إليه؛ نظام يتساوى فيه الخير والشر. نظام يصعب فيه تمييز الخير عن الشر، والجريمة عن الإحسان؛ نظام تعمل فيه النوايا الحسنة في خدمة النوايا السيئة، والعكس غير صحيح. نظام مركّب كي يرتكب الأفراد فيه كل الأثام والجرائم، وتحميهم الجماعات، ويُجهَّل الفاعلون. نظام قبلي، تدفع فيه القبيلة دية القتيل. يُدان القتيل لكن القبيلة تدفع الدية عنه، فكأنها تُبَرّئه. تعترف القبيلة بأنه ارتكب الجريمة: النظام القبلي يُحتم هذا الإعتراف.
في نظام ديموقراطي تتعلّق الحصانة بالرأي. حصانة النائب مبعثها حماية الرأي، مهما كان من الإدانة. لا حصانة في القانون لوزير لأنه جزء من السلطة التنفيذية. الحصانة تطال السلطة التنفيذية. حصانة الموظف أو البيروقراطية بشكل عام، قضت بها الحماية في وجه السياسيين الذين يمسكون بمفاصل السلطة، والأرجح أنهم يضغطون على الموظفين. غالباً ما يأمرونهم بكل شيء، حتى بما يخالف القانون. الحصانة تتعلّق بحرية الرأي، حرية التعبير، لا حرية التنفيذ. كل حصانة لأمر تنفيذي موضع شبهة حتى ولو نص عليها القانون.
حق التعبير، أو واجب إبداء الرأي، حق مقدس. لا مقدس غيره. هو وحده ما تطاله الحصانة. هذه تسري حتى على الرأي بالمقدسات. تُحترم المقدسات لا لأنها مقدسات بل لاحترام الذين يؤمنون بها. وكل قانون يعاقب التعرّض للمقدسات مشبوه ومدان، إذ هو لا بدّ أن يكون عشوائياً. تطبيق عقوبات بمن يتعرّض للمقدسات ينبع من اعتبار ذاتي عند صاحب السلطة لما هو مقدس. هو باعث لاستخدام التقديرات الذاتية في تطبيق القانون.
واجهت الطبقة السياسية انفجار 4 آب/أغسطس وتحديد المسؤولية بالحصانة كي تحمي البعض وتدين البعض. بنظرها كل الشعب اللبناني مدان منذ ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر عام 2019 لأنه خرج على الهوية المعطاة ـ الطائفية، وشكّل هوية أخرى فوق كل الهويات. خرج الشعب اللبناني على الطائفية وعلى أكباشها. وخصص للمواطنية المكان الأول والأعلى. بمعنى آخر خرج الشعب اللبناني يريد دولة تكون إطارا جامعا للبنانيين، كل اللبنانيين. وفي مقابل الدولة وفي إطارها في آن واحد؛ المواطن الذي إذا كان لم يخرج من طائفيته فهو جعلها في درجة ثانوية. احتل الانتماء للدولة المكان الأول في وعي أهل الثورة، وهم معظم اللبنانيين. فكان ضرورياً معاقبتهم.
انفجار 4 آب/أغسطس جريمة العصر. لا بدّ وأن واحداً ارتكبها. بيروقراطية الدولة، الطبقة السياسية، المسؤولون الأمنيون، كلهم كانوا يعرفون بنيترات الأمونيوم. تطايرت الأوراق المتعلقة بها بين مختلف أروقة الدولة القضائية والإدارية والسياسية منذ أعوام. مكاتبات عديدة. الكل يسأل الآخر عما يجب فعله. والكل يتنصل بالإحالة الى دائرة أخرى في الدولة. على مدى ست سنوات، كل الذين تعاقبوا على مراكز المسؤولية في السلطة، من مختلف أطراف الطبقة السياسية، كانوا يعرفون خطورة تخزين نيترات الأمونيوم. لا بل يعرفون أنه يسرق للاستعمال في الأرجاء اللبنانية أو المجاورة. الداخل اللبناني كان يعرف. الخارج بطبيعة الحال، مع كثرة أجهزة المخابرات الأمنية الأجنبية في لبنان التي تتبادل المعلومات، كان يعرف. الأوراق كانت تتطاير بين الدوائر في لبنان، فيراها ويعرفها ويقرأها القاصي والداني. كلها، أجهزة داخلية وخارجية، كان بإمكانها التخلّص من نيترات الأمونيوم. لكنها لم تفعل ذلك. هل كان المسؤولون يتعرضون لضغوطات؟ على الأرجح. خاصة وأن الجميع كان يعرف مدى خطورة المادة. وجهة استخدام النيترات كانت أهم من خطورتها. أن تقبع الخطورة في مرفأ بيروت أهم من أن تقبع في بلد مجاور. انفجارها ممكن، وهو ممكن أن يكون مفيداً في إفهام اللبنانيين، بعد ثورة تشرين، بضرورة الاستسلام لقدرهم: الهجرة أو الخضوع أو الخراب الكامل.
تجهيل الفاعل أمر معروف لدى النظام اللبناني. تتوزع المسؤوليات. فيكون المجموع مسؤولاً أو لا أحد مسؤول. طريقة إبداعية هي أن يوضع بعض الموظفين من مراكز وسطية أو دنيا وراء القضبان. أما أكباش الطوائف وحاشيتهم فالخط الأحمر هو الحصانة؛ ثم يوزع التحقيق على ثلاث مؤسسات: القضاء العدلي، مجلس القضاء الأعلى، والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. تتوزع مسؤولية الجريمة وتتوزع مسؤولية الحكم فيها. أو الكل أو لا أحد. أما أنها جريمة محددة، في أرض محددة، مسؤولية الإشراف عليها محددة، فهذا أمر آخر. نظرية الإهمال تؤدي بشكل أو بآخر الى اعتبار الضحايا هم المسؤولون. الأمر كان سيحدث. الانفجار سيكون ضخماً. ومن المؤسف أن سكاناً يحيطون بالمرفأ، وأن المرفأ ذاته هو موضع الانفجار. لو لم يكن هؤلاء جميعهم في أماكنهم لحظة الانفجار، لما تأذوا، ولم يصبحوا ضحايا، ولم تصبح المدينة ضحية، ولم يصبح مرفأها ضحية. كأن المسؤولين المباشرين وغير المباشرين، أي الحقيقيين، هم خارج فضاء الكرة الأرضية. القضاء الدولي مرفوض بالنسبة لاغتيالات سابقة بسبب دواعي السيادة. القضاء المحلي مكرسح بالحصانات. القاضي المسؤول نزيه وصلب والكل يقر بذلك. لكن العراقيل دستورية. كأن الدستور وُضع لحماية المرتكبين؛ أو كأن الجريمة اقترفت لتحدي الدستور. ليست المسألة في القوانين ولا في الدستور بل في طبقة سياسية وعلاقتها بالدستور والقوانين. هي المخولة، بحكم موقعها، بتفسير القوانين والدستور. وهي التي تتصدى لإعطاء الحكم، رغم أنها هي الفاعلة. تجهيل الفاعل لن يجدي هذه المرة. التحركات الشعبية لكشف عناصر الجريمة تعرف أن الفاعل هو الطبقة السياسية، وهي تدين الفاعل مباشرة. في ذلك امتداد لثورة تشرين. وهنا تكمن خطورة التحركات الشعبية، خاصة أهالي الضحايا. أما الضحية المرفأ، فهذا أمر متروك لقوى “المساعدات الأجنبية” التي سوف تختار بين مرفأ بيروت والمرافئ الإسرائيلية. دور مرفأ بيروت هل سيكون متوسطياً أم سيكون نهاية خط يمتد من الداخل العربي والإسلامي وحسب؟ وفي المحصلة: هل سيبقى لبنان بلدا كوزموبوليتياً، يحافظ على تعدديته وانفتاحه أم سيتحوّل الى بلد مغلق كما الدول المجاورة؟ حقاً كان لبنان بانفتاحه شوكة في الخاصرة العربية والإسلامية.
جاء الانفجار ـ الجريمة في وقت كان يتم إجلاء النخب الثقافية والطبقية من لبنان. كان لبنان يفرّغ من نخبه التقنية، بما يفرّغ لبنان من القوى التي كانت تجعل من لبنان وضعاً مميزاً ثقافياً ووطنياً وتعليمياً. الانهيار المالي، مصادرة ودائع الناس، وإفقار الناس، أزمات متزامنة كل واحدة منها تكفي لإسقاط أي نظام في العالم. كل ذلك لتشجيع الناس على الهجرة ومسح الطبقة الوسطى محرّك التطوّر. نتائج الإنفجار أكبر بكثير من تلك المادية والبشرية المباشرة. أدى الانفجار الى تغيير اعتبار لبنان لنفسه وموضعه بين بلدان المنطقة. ليس للبلد دور استراتيجي في أي منطقة عندما تخضع سياسته لإرادة أبنائه. يصير ذا دور، والدور تلاعب بأبنائه على يد قوى أجنبية شقيقة أو غير شقيقة، عندما يفقد أبناؤه السيطرة على ما فيه. عندما يفقدون السيطرة على ما يتعلّق في الداخل. لذلك فإن النضال المتعلّق بالمدينة (المرفأ، والمنطقة المحيطة، وكل بيروت، وكل لبنان) هو من أجل أن يكون هو هو. وأن يعبّر نظامه عن إرادة أبنائه، وليس ساحة لتنافس القوى الإقليمية والدولية. لبنان مع “الوصاية السورية” كان ذا سيادة منتقصة. الآن لبنان أصبح دون سيادة. صار له دور تقرره الدول في المنطقة والعالم. التعبير “دور” بحد ذاته يعني أنه ساحة صراع. لبنان قبل الانفجار، وخاصة قبل وبعد الثورة، كان ينازع ضد الدور، وكان يناضل من أجل اكتساب ذاته. الانفجار جعل له دوراً. الدور تتناتشه الدول الاقليمية والدولية. كان لبنان مقصداً لأن الصفات الذاتية التي يتمتّع بها جعلت له ميزات خاصة غير عربية وغير إسلامية. التخلي عن لبنان نعمة لا نقمة. لبنان دولة مفلسة وعاجزة. كل الدول مفلسة (دينها العام كبير) لكن ليس كل الدول عاجزة. المساعدات جزء من النظام العالمي. لا فائدة من المساعدات إذا لم نتمتّع بالقدرة (عكس العجز) في الداخل. عندما أخذنا مساعدات في التسعينيات الماضية كانت مكملة لجهود وطنية ولم تكن بديلاً عنها. انفجار بيروت يحيلنا الى بلد يعتمد كلياً على المساعدات. عند ذلك سيكون للبلد دور، وذلك حسب موازين القوى المتنافسة. ثورة 17 تشرين كانت من أجل أن يكون للبنانيين مساهمة أساسية في نظام بلدهم. ولم تكن من أجل الدور. “الدور” الذي يتبجح به البعض هو عند الطبقات العليا وحسب. طبقات الثورة تريد أن يكون البلد لأبنائه لا لقوى الخارج؛ لا للدور. لا يريد الناس أن يكون بلدهم لاعباً في مسرحية. لبنان لم يكن بلداً مغلقاً ليكون له “دور”. كان بلداً مستقلاً حتى في أحلك الظروف التاريخية، منذ التأسيس عام 1920. لبنان المتعدد، الكوزموبوليتي، المنفتح سياسياً واجتماعياً، الذي كان ضد كل معالم الاستبداد في البلدان المحيطة (عربية كانت وإسلامية).
ما سعت إليه ثورة 17 تشرين هو استعادة الوضع، بأن يكون لأبنائه الدور الوحيد في تقرير مصيره. في حين كانت الطبقة العليا تسعى لدور لها وللبنان. سعي الثورة كان من أجل الاستقلال. سعي الطبقة السياسية كان من أجل الدور. لبنان التسعينيات كان من أجل الاستقلال والسيادة. لبنان الذي تلى اغتيال رفيق الحريري كان من أجل الدور. اغتيل رفيق الحريري لأنه رفض الدور. ولأن سعيه للاستقلال هو ما أطاح به. بقايا 8 آذار في لبنان، وحتى 14 آذار، تسعى للدور. لذلك لا نستطيع مناقشة شؤون البلد السياسية دون “مخططات” الدول الخارجية، العدوة والصديقة. ما يجعل لبنان مستقلاً، ذا سيادة حقيقية، هو إرداة إبنائه التي لم تستطع الديموقراطية والانتخابات أن تكون مؤشراً عليها.
مع تأييدنا الكامل لقوى الثورة، القوى التي تناشد العدالة بعد 4 آب/أغسطس، نحن نطلب العدالة من الفاعل المرتكب المجرم. كما قال أبو الطيب المتنبي، فيه الخصام (المرتكب)، وهو الخصم والحكم. هو نظام ارتكب الانفجار. البعض عن عمد والبعض عن غير ذلك. ومهما توفر قضاة مستقلون يتحلون بالشجاعة المعنوية والمادية، لن نصل الى الحقيقة، دون تعديل النظام. وهذا لا يتعدّل إلا من داخله. الانتخابات وسيلة برغم التزوير. من هنا حدة التنازع على وزارة الداخلية. لكن المطلوب أن يصوّت الناس حسب قوانين أو متطلبات الثورة. ليس علينا أن نختار بين هذا وذاك من الطبقة السياسية الحاكمة، بل بين هذا وذاك من أتباع الثورة والإصلاح. فهل يستطيع الناس أن يقولوا لا للطبقة السياسية؟ هل يستطيعون تجاوز هوياتهم الطائفية والعشائرية والمحلية والتبعية للزعامات؟ هل يستطيعون فعلها ثانية كما في ثورة 17 تشرين؟
الماكينات الانتخابية تراقب الناس. كذلك الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التى تسيطر عليها الطبقة السياسية. هل تتجدد اللحظة الثورية؟ في الأحوال العادية السلطة تراقب الناس. في اللحظة الثورية الناس يراقبون السلطة. فهل يستطيعون تغييرها؟ لن يستطيعوا ذلك بالانتخابات بل بالسياسة؛ والسياسة هي تراكم التسويات. المسألة ليست أحكاما قضائية وحسب، وليست تغييراً للنظام، وهذا سيكون نحو الأسوأ. المسألة هي في أن تلعب القوى الشعبية، وبينها ضحايا الانفجار دوراً أكبر من السياسة اللبنانية، أي في إدارة شؤون البلد. المسألة لا تتعلّق بالعدالة أي الاقتصاص من الفاعلين وحسب، بل في تطوير النظام اللبناني بدءاً من الصفر، بل تراكماً على ما مضى. في تراكم التسويات نعرف ماذا نفعل ونسيطر على التطوّر. في العودة الى الصفر يكون الانقلاب ونقف متسائلين: ماذا نفعل؟ حتى السؤال يصير ممنوعاً. العقبة الأساسية في وجه التطوّر هو الطبقة السياسية، بنظامها الطائفي وبقانون انتخابي مسخ؛ قانون يجهّل الناخب نتيجة صوته. دائماً تجهيل الفاعل. تجهيل المجرم في انفجار بيروت، وتجهيل إرادة الناس في انتخابات يُزعم أنها ديموقراطية، لكنها بالفعل عكس ذلك. قانون انتخابات يلغي السياسة. يُدار البلد بالسياسة، ويتم تطوير النظام بالسياسة، ويتم تطهير النظام من الطبقة الحاكمة بالسياسة، وتتحقق إرادة الناس بالسياسة. يريد اللبنانيون سياسة تحمي الديموقراطية، لا ديموقراطية تحوّل النظام الى استبداد من نوع آخر. كل القوانين الانتخابية السابقة أفضل من القانون الحالي. السياسة ليست في حقوق الطوائف بل في حقوق الأفراد كمواطنين، وفي تحقيق الدولة كإطار للعيش سوية. جرائم مثلث خلدة محاولة لنسف الدولة لأنها تعني عدم إمكانية العيش سوية. جريمة المرفأ مؤشر لما يراد أن يكون لبنان في المستقبل، حسب الطبقة الحاكمة الحالية. النضال هو من أجل لبنان كما يريده أبناؤه.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق