القرار باسم الملك، لكن محمد بن سلمان يستمتع الان بصورة نصير السعوديات وحريتهن.
الخطوة “ضربة معلم” بالنسبة الى ملايين السعوديات. المكسب نسوي بالتأكيد، حتى وان تأخر أكثر من نصف قرن، ومهما كان ضئيلا. ذلك اننا نتحدث هنا عن مملكة، يجري فيها التغيير ببطء خانق.
ومع ذلك، فان القضية هنا شديدة الاثارة لاسباب أخرى كثيرة.
أولا، ان القرار ليس تاريخيا كما جرى تصويره. القرار الملكي الذي يجيز استخراج رخص سوق للنساء، هو تصحيح لظلم اجتماعي ـ ذكوري، فرض على السعوديات طويلا. هو حق مكتسب للمرأة السعودية، سلب منها، ورد اليها. لا “تاريخية” هنا، يمن بها على النساء. الادعاء بـ”تاريخية” القرار فيه الكثير من الخفة.
ثانيا، ان القرار مؤجل السريان حتى حزيران / يونيو 2018، والاهم انه محدد في المرسوم، ليكون “وفق الضوابط الشرعية والنظامية المعتمدة”. التعبير فضفاض ويحتمل الكثير من التأويلات والقيود، من بينها فرض حظر تجول ليلي على النساء، او تقييد حركتهن الشوارعية في مناطق سكنهن. هذه بعض التكهنات التي راجت بسرعة. تصور للحظة كم هو مرعب هذا الامر. وما ان انتشر هاشتاغ #الملك_ينتصر_لقيادة_المرأة، حتى انهالت تغريدات لسعوديين وسعوديات، يعارضون القرار الملكي ويطالبون بلجمه!
ثالثا، حرام الامس، حلال اليوم. ساعات قليلة وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي ببيانات وفتاوى مصورة لكبار رجال الدين والدعاة السعوديين، وقد انقلبت مواقفهم بين ليلة وضحاها. صحيح ان السعوديات ربحن حقا بديهيا طال انتظاره، الا ان مشايخ السلطان، أصيبت مصداقيتهم في الصميم.
رابعا، هل تعمد محمد بن سلمان، الممسك الان بالكثير من خيوط اللعبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الاقدام على هذه الخطوة من دون الرجوع الى المؤسسة الدينية التقليدية؟ لاحظوا ان تمهيدا مسبقا، ولو لفظيا، لم يخرج عن “هيئة كبار العلماء”، يفتح الطريق امام الملك وولي عهد وهما يكسران فجأة، محظورا اجتماعيا كهذا.
خامسا، اذا اتفقنا ان قرار الملك وابنه تجاهل المؤسسة الدينية، ليس هفوة، بل واستبقا الخطوة بحملة اعتقالات طالت نحو 30 من رجال الدين والدعاة، تصبح عندها المسألة ذات ابعاد خطيرة. ذلك انها اذا كانت “تكميما للافواه”، فمن معاني ذلك، ان رأس السلطة بات، في مكان ما، يرى في التيار الديني المتشدد، عقبة امام مشروعه في الحكم، و”تقليم اظافره” بات حاجة ملكية في لحظة القلق المحتدم في أروقة القصور الملكية، منذ تنحية محمد بن نايف، والتمهيد لجلوس محمد بن سلمان على العرش.
سادسا، ان الخطوة تبدو استجابة لتحديات أخرى. الاعتقالات، وبعض التململ الشعبي، وبين أمراء العائلة، مع تراجع إيرادات النفط، واستنزاف حرب اليمن للخزائن السعودية، والتحولات الإقليمية الضاغطة، سواء في الصراع مع ايران، والخلاف المستعر مع قطر، واحتمال تشكيل لجنة للأمم المتحدة للتحقيق في جرائم حرب اليمن، والانكفاء النسبي من مستنقع الحرب السورية. ان الظهور بمظهر المناصر للحريات وحقوق المرأة في لحظة كهذه، لا يبدو عملا دعائيا ضروريا فحسب، وانما عملا من اعمال الدهاء السياسي الملح.
سابعا، استطلاع غير رسمي اجري في كلية للبنات في جامعة ام القرى في مكة في العام 2013، اظهر جوانب قد لا يكون كثيرون على دراية بها. المفجع ان التيار الرافض لقيادة المرأة للسيارات ليس ذكوريا حصرا. هناك شريحة نسائية كبيرة تعارض. الاستطلاع يظهر انه من بين 170 جامعية، اعتبر 134 منهن ان قيادة السيارات، ليست حاجة نسائية ملحة، وهي الى جانب ذلك، تفتح الباب امام انتهاكات مثل التحرش الجنسي والتحلل الأخلاقي، والتخلي عن النقاب، وصولا الى تزايد الشكوك بخيانة أزواجهن لهن مع تزايد اعداد النساء السائقات بحرية في الشوارع.
بهذا المعنى، ان التغيير الحقيقي هنا، يجب ان يطال منظومة التفكير المجتمعي، والاطاحة برموز معممة كالشيخ السعودي القائل قبل أيام ان المرأة بربع عقل، ضمن محاضرة حول “شرور قيادة المرأة للسيارة”. ان “رؤية السعودية 2030” لا مكان لها في النجاح، ما لم تقتلع مفاهيم رجعية كهذه. وبهذا المعنى أيضا، ربما سيكون بإمكاننا ان نفهم اكثر ان حركة الاحتجاج النسوية المطالبة بقيادة السيارات، ظلت شبه يتيمة منذ بداية التسعينات، أيام الملك الراحل فهد ووصولا الى الملك عبدالله الذي وعد وأخلف. وظلت المملكة الدولة الوحيدة في العالم الذي تفرض هذا الحظر العجيب.
وفي كل تملص كانت تمارسه السلطة بشأن حق القيادة النسائية، كان التيار الديني الوهابي، سواء من خلال المنظومة المتحالفة مع الحكم، او العمائم المتحركة حول اجنحة السلطة، يخرج على السعوديين والسعوديات، بفتاوى واحكام دينية، تبرر للحاكم الرفض، او المراوغة والتأجيل، بما في ذلك “هيئة كبار العلماء” في السعودية، التي لانت فورا، وعاجلت الى القول بالأمس ان “قيادة المرأة للسيارة من حيث الأصل.. مباح شرعاً”!
سيكون على السعوديات الانتظار لمعرفة “الضوابط الشرعية” المتوخاة. فهل وصلهن حق القيادة فعلا؟ ام سيمنحن مكسبهن مقيدا؟ وسيكون علينا ان نراقب علاقة العرش بالتيار الديني في المرحلة المقبلة لتحسم مؤشرات الصراع، من عدمها. ان الحقوق التي ينتظرها السعوديون، والمعيشية منها خصوصا، اكبر بكثير من حق القيادة النسوية. وهنا المحك الكبير والحقيقي لمحمد بن سلمان.