يكاد المشرق العربي يتحول إلى بركة عظيمة من دماء أبنائه، بلا أفق «يبشر» بنهاية قريبة لهذا الضياع المتمادي الذي ينذر بمخاطر جدية تتهدد الكيانات السياسية القائمة فيه، فضلاً عن «وحدة الشعب» التي كانت الأمل والطريق إلى الغد الأفضل للأمة الواحدة الموحدة، المعافاة والقوية والقادرة على احتلال مكانتها تحت الشمس.
من اللاذقية وطرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى الحديدة والمخا على البحر الأحمر، تتمدد نيران الحروب التي تفتقد المبررات الكافية لتفسير تفجّرها، ملتهمة أو ـ بالحد الأدنى ـ مهدّدة وحدة «الشعب العربي» قبل الكيانات السياسية وبعدها، بالتهاوي والانفراط في غمار حروب بلا أهداف تستحق كل هذه التضحيات. إن الخسائر الفاحشة تتجاوز أي تقدير وتكاد تذهب بالأوطان وشعوبها التي كانت إلى ما قبل عهد قريب «شقيقة» يجمعها حلم التوحد طلـباً للقوة، أقله لمواجهة العدو الإسرائيلي الذي احتل فلسطين ثم تضخم خطره فبات يهدد الوطن العربي جميعاً، مشرقاً ومغرباً.
في سوريا، التي كانت تتبدى آمنة في ظل دولة قوية، نسبياً، حرب مفتوحة تشارك فيها دول عدة، ومنظمات إرهابية تكاد تكون بقوة دول، أخطرها وأوسعها تمدداً تنظيم «دولة الخلافة الإسلامية». وبعض هذه المنظمات يحظى برعاية دول عربية غنية ونافذة، ويستفيد من مواقف ملتبسة لدول كبرى أخطرها الولايات المتحدة الأميركية. أما الدليل فإن المختل عقلياً وحده يمكن أن يقبل ادعاء واشنطن بأن تنظيم «داعش» قد اجتاح بسياراته اليابانية الجديدة التي تسلّمها في تركيا، وعبر بها إلى الموصل في العراق، من دون أن يلمحه قادة طائراته الحربية التي لها قواعد معروفة في دولة الانطلاق (تركيا) كما في الدولة المقصودة (العراق)، ومن دون أن تكشفه الرادارات الجبارة المنصوبة في مختلف أنحاء تركيا، وبعضها يقوم مباشرة عند الحدود مع كل من سوريا والعراق.
إلى «داعش» هناك «القاعدة» ـ كما اسمها الأصلي ـ أو «فتح الشام» («جبهة النصرة»)، كما اسمها المستحدَث. وقادتها وعناصرها يتحركون مخترقين الحدود السورية ـ العراقية في الاتجاهين، من دون ان تكشفهم الطائرات من دون طيار، أو الطائرات الحربية الأميركية التي تجوب الآفاق مخترقة الحدود بين تركيا وسوريا، وتركيا والعراق، والعراق وسوريا بلا رقيب أو حسيب.
لقد بات المشرق العربي أرضاً مفتوحة يتجول في أنحائها وسمائها كل من استقوى على ضعفها بقوته. في العراق طائرات حربية بجيوش من سبع دول غربية، أو أكثر، فضلاً عن القوات الأميركية التي تتمركز في قواعد عسكرية للجيش العراقي، أو أخرى ابتنتها خلال مرحلة احتلالها.
وفي أنحاء الجزيرة والخليج العربي قواعد يقيم فيها «خبراء» بذريعة تدريب جيوش هذه الدول الغنية بنفطها والغاز والفقيرة بعديد سكانها. وللخبراء حصانتهم، وهم يشكلون القيادات الفعلية، فضلاً عن أن أمر العمليات في واشنطن، يصدر فيها ومنها. ولهذه الطائرات بحاملاتها أو بالمطارات الصديقة مهمات عديدة، أبرزها رصد ما يجري في الخليج امتداداً إلى بحر العرب وصولاً إلى مضيق باب المندب فالسواحل السعودية واليمنية والأفريقية، وصولاً إلى قناة السويس وعبرها إلى البحر الأبيض المتوسط. أي أن الشواطئ العربية على البحرين، الأبيض والأحمر، هي تحت الحماية الأميركية وليس تحت رقابتها فحسب. وإذا كان الشاطئ السوري الذي بات تحت حماية الروس يشذ عن القاعدة، فإنه تحت الرقابة المباشرة، أميركياً و «أطلسياً» (تركيا بالذات).
إذا أضفنا إلى هذا الأمر الواقع أن نفط شبه الجزيرة العربية والغاز (أي ثروة هذه البلاد التي كانت صحارى فغدت من أغنى دول الأرض) تحت السيطرة الأميركية، أدركنا اين هو المصدر الفعلي للقرار في هذه الدول. وصحيح أن نيران الحروب في المشرق لم تطاول بعد دول الجزيرة والخليج ذاتها، لكن بعضها ضالع في إشعال النار (كما في سوريا) أو في منع إطفائها (كما في العراق)، باستخدام نار أشد سعيراً هي الطائفية والمذهبية بل والعنصرية (كما في موضوع الأكراد).
كذلك فإن النار التي أشعلتها هذه الدول في اليمن الذي يتميز عنها بفقره راهناً، كما بحضارته تاريخياً، تنذر بالتمدد إليها. أحدث الطائرات الحربية وأقواها (وهي أميركية أساساً ومعها طائرات غربية أخرى) تقوم بتدمير مدن هذه الدولة العريقة وقراها، بتراثها المعماري الذي لمَّا يفقد تميّزه، وآخر إنجازات هذا الطيران الحربي قصفه دار عزاء في صنعاء قضى فيها مئات اليمنيين، كما جُرح المئات.
ومؤكد أن هذه المذابح اليومية، ومعها تدمير أسباب العمران، لن تذهب باليمن بل ستعمّق مشاعر العداء بين الشعبَين الجارَين اللذين كان يفترض أن يكونا شقيقَين، وستُعزز الرغبة بالثأر لدى اليمنيين، شمالاً وجنوباً.
إن تدمير دولة اليمن التي وَحَّدَها الشعبُ ثم الفقرُ، فضلاً عن اضطهاد الاخوة الأغنياء، لن يعود بالخير على دول الخليج، ومعظمها ناشئ تحميه ثروته التي تستدرج المستثمرين الأقوياء الذين قد يتدخّلون لحماية مصالحهم المذهّبة في هذه البلاد التي بلا أهل أو بلا رأي لأهلها فيها.
كذلك، فإن المساهمة بتدمير وحدة العراق عبر النفخ في جمر المذهبية ومحاولة تقسيم العراقيين إلى شيعة وسنة، بعد استثمار العرق لتشجيع انفصال الكرد عن العرب (بتحريض ورعاية أميركية، أضيفت إليها مؤخراً رعاية العدو الإسرائيلي).. كل ذلك لا يمكن أن يرتد برداً وسلاماً على دول الجزيرة والخليج. بالمقابل، فإن الوقاحة التركية في الإصرار على التدخل في شؤون العراق، بذريعة «حقها» في المشاركة في تحرير الموصل التي لم يحتلها «داعش» ولم يرتَقِ «خليفته» منبر مسجدها الكبير، إلا بمساعدة مباشرة تركية، أبرز أدلتها ذلك الطابور الطويل من سيارات «داتسون» الواصلة من مصانعها اليابانية عبر الأراضي التركية إلى شمال العراق وصولاً إلى ثانية كبرى مدنه: الموصل.
أما في سوريا، فالموقف التركي في غاية الوضوح، أمس واليوم وغداً. لقد آوَتِ الحكومة التركية ودرّبت وسلّحت (مباشرة أو بطرق غير مباشرة) فصائل عديدة من مقاتلي المـــعارضة السورية، بينها «فتح الشام» ـ أي «القاعدة» ـ فضلاً عن «داعش» التي سهّلت لها العبور وحمت لها جميعاً طوابير مقاتليها في تنقلهم بين ســــوريا والعراق، وإن ظلت مناطق الانطــــلاق نحو الدولتَين العربيتَين هي الحدود التركية. كما أن معســــكرات التدريب والتسليح كانت عند تلك الحدود أو داخلها.
طبعاً لم تكن تركيا وحدها شريكة في الحرب في سوريا وعليها، بل إن بعض دول الخليج بالقيادة السعودية، كانت لها مواقفها المعلنة في استعداء النظام في دمشق إلى حد التحريض عليه علناً وتقديم المساعدات المؤثرة ـ تسليحاً وتدريباً وتمويلاً وإيواء ـ إلى المنظمات والجبهات المختلفة التي توالدت بغزارة، كما الفطر.
المفارقة مفجعة: فثلاث من العواصم التي اصطنع فيها تاريخ هذه المنطقة العربية مهدّدة بالضياع وخسارة الدور، هي صنعاء وبغداد ودمشق. هذا فضلاً عن مدن عريقة أخرى لا تقل أهمية وخطورة في دورها في بناء الحضارة الإنسانية مثل حلب والموصل وتعز وعدن.
أي أن العواصم العريقة تُدَمَّر وتختفي ويُطمَس معها التاريخ، وتُستَولَد عواصمُ لا تاريخ لها مثل الدوحة وأبو ظبي والرياض، بكل ما يعنيه ذلك من شطب لصفحات مجيدة في كتاب الحضارة الإنسانية، عمارة وسياسة وثقافة وإبداعاً فنياً مميزاً.
إن العرب يدمرون صفحات المجد في تاريخهم بأيديهم: مرة بالمكايدة والأحقاد الموروثة، ومرة ثانية بطموح بعض الأغنى بالثروة والأفقر بالتراث الحضاري إلى احتلال الموقع القيادي بشطب «الكبار» مستقوياً عليهم بذهبه وفقرهم.
ومفهوم أن الدول التي أنشأها النفط والغاز تبقى رهينة مستثمري ثروتها، والثروة لا تشتري التاريخ ولا هي مؤهلة لاستيلاد حضارة في أرض لم تعرفها ولا هي تتسع لها. وجميل أن تستعير أبو ظبي، مثلاً، بعض متحــــف اللوفر من باريس، لكـــنه لن يصبح بعض تاريخها، وإن كانت اللفتة ممتازة سياحياً.
إن العرب يخسرون مع حاضرهم ماضيهم والمستقبل.
إننا نغتال ماضينا مع الحاضر والمستقبل.
ومؤسف أن لا أحد يتوقف ليعيد النظر في ما يجري لمحاولة استنقاذ ما يمكن إنقاذه من أشلاء المستقبل.
] تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان