يكاد وزير الخارجية الأميركية يمضي وقته ضيفاً عزيزاً على منطقتنا، وفي فلسطين المحتلة تحديداً، بهدف معلن: تأمين استمرار المفاوضات على المفاوضات بين العدو الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية.
بين الجولة والأخرى يذهب بعض ما تبقى من الرصيد المعنوي لهذه السلطة للوسيط الأميركي الذي يدرك – بالتأكيد – أن هذه «القضية» هي الأخطر والاهم والأقدس، ليس فقط بالنسبة لشعبها بل للأمة العربية جميعاً، وأن بدعة التفاوض للتفاوض تلتهم جوهر القضية، ومعها «منظمة التحرير الفلسطينية» التي تعيش الأزمة المصيرية اللاغية لوجودها… فلا هي تحرز أي تقدم من خلال التفاوض، ولا هي مستعدة للانسحاب من هذه الدوامة التي تفضح عجزها. العجز الذي يتخذ أبعاده الخطيرة من خلال «تناسي» أهل النظام العربي القضية وأهلها، سواء داخل الأرض المحتلة أو خارجها.
ذهبت مقررات القمم العربية التي تعاقبت في مختلف العواصم، مع الريح.. خصوصاً أن الأنظمة التي استولدتها الانتفاضات ما تزال مشغولة بهمومها الداخلية كما بإعادة ترتيب علاقتها هي مع عاصمة القرار الكوني: واشنطن.. ولا تريد أن تباشر عهدها الجديد بتعقيدات هذه القضية الخطيرة والمزمنة والتي «قد لا يضير أهلها الذين انتظروا عشرات الأعوام حلاً لا يأتي، أن ينتظروا لبعض الوقت الإضافي وريثما تستقر الأوضاع الجديدة في عواصم القرار العربي».
..هذا فضلاً عن أن انتفاضات «الميادين» في مختلف العواصم لم تكن فلسطين على جدول أعمالها بشكل مباشر، وهي قد حرصت على «عدم استفزاز» العدو الإسرائيلي، ومن خلفه الإدارة الأميركية، حتى لا يؤثر ذلك على مسيرة الإنجاز التي تبرر وجود من وصل إلى السلطة باسم «الميدان».
من هنا تتعاظم المخاوف من أن تكون قضية فلسطين هي الضحية العظمى للفوضى الدموية الهائلة التي اجتاحت الدنيا العربية من خارج التوقع، وبالتالي من خارج التخطيط والتنظيم لما بعد انتفاضات «الميدان» بالجماهير المليونية التي اقتحمتها لإسقاط النظام – الأنظمة القائمة والمتهمة في وطنيتها قبل الحديث عن عروبتها والتزامها أصول الديموقراطية.. وعلينا الاعتراف ان قضية فلسطين قد تراجعت إلى الخلف بعدما غرق الشارع في كل قطر عربي، في همومه المحلية.
وفي الوقائع اليومية، فإن التفاصيل قد غلبت على جوهر الموضوع، وصار الأميركي وحده هو المفاوض مع العدو الإسرائيلي. وبات المشهد سوريالياً: الأميركي يفاوض الإسرائيلي ثم ينتقل لإقناع الفلسطيني بالاستمرار بالتفاوض بغض النظر عن النتائج، والفلسطيني اثنان وربما أكثر.
وإذا ما اعتبرنا أن «السلطة» هي الوريثة الشرعية لـ«منظمة التحرير الفلسطينية» فإن انشقاق غزة تحت راية «الإخوان المسلمين» قد اضعف أكثر فأكثر المفاوض الفلسطيني وأضاف أوراقاً جدية إلى العدو الإسرائيلي ووسع مساحة الدور الأميركي.
غزة في البعيد تشكل بوضعها الانقسامي نقطة ضعف خطيرة في الموقع التفاوضي للمنظمة العاجزة عن توحيد سلطتها على ما أبقت لها سلطة الاحتلال من أراض تنهشها المستوطنات على مدار الساعة.
أما العرب فمشغولون عنها كلها وغارقون في همومهم القطرية.
صارت اجتماعات مجلس الجامعة العربية، كما القمم العربية، مجرد محطات استماع، تأتي إليها المنظمة فتبلغ الأشقاء الذين نسوا القضية والعاجزين عن دعمها حتى لو أرادوا، فكيف وكل نظام يحاول استنقاذ نفسه مقدماً موقفه من قضية فلسطين شهادة حسن سلوك للإدارة الأميركية متجاوزاً النسيان إلى «الحياد» الذي يضيف قوة إلى العدو الإسرائيلي.
بعد 14 سنة من قمة بيروت التي شهدت واحدة من محطات التنازل الأكثر إيلاماً، ها هي القمة العربية في الكويت لا تجد ما تقدمه لقضية فلسطين إلا العودة إلى مقررات تلك القمة التي شكلت محطة على طريق التنازل الجماعي عن جوهر القضية في محاولة للملمة الصف العربي المبعثر دائماً حول الحد الأدنى من الحق الفلسطيني، وتوفير الحد الأدنى من الأدنى من الدعم بالقرارات التي تنسى بعد تلاوتها مباشرة، وبصوت متهدج، مع اختتام القمة… أية قمة وكل قمة.
مرت مياه كثيرة في مجرى القضية التي كانت مقدسة وصارت مجرد مدى حيوي لسلطة لا سلطة لها على بعض البعض من أرضها التي أعطيت لها… ثم جرى انتزاع بعضها بالمستوطنات التي تكاد تلتهم المدن بما فيها رام الله والقرى والجبال والوديان… في حين يكاد يكتمل التهام الجزء العربي من مدينة القدس.
صار الإسرائيلي يفرض شروطه للقبول بالتفاوض مع الأميركي المتهم الآن في «حياده» وصار الفلسطيني ضيف شرف، بل شاهد زور، وجوده ضروري لإظهار واشنطن كصديق كبير ووسيط نزيه، ولكنه لا يقدر على أكثر مما يقدم. صارت أواصر الصداقة تشد المفاوض الفلسطيني إلى «غريمه» – عدوه السابق – الإسرائيلي، وصور الابتسامات كاشفة الود، تفضح جوهر التنازلات، هذا إذا ما تغاضينا عن الشائعات حول العلاقات الغرامية بين بعض المفاوضين – الخصمين.
أليس عبثياً أن يذهب رئيس السلطة الفلسطينية إلى جامعة الدول العربية شاكياً، فيسمعه وزراء الخارجية ويكتفون بهز رؤوسهم توكيداً للتعاطف ثم ينصرف كل منهم إلى «همومه» في بلده التي لا تبقي له من الوقت ومن القدرة على الاهتمام ما يمكن أن يعطيه للقضية التي كانت مقدسة وصارت منسية.
ثم أليس مهيناً أن «يعيّرنا» وزير الخارجية الأميركية بأنه قد أعطى «قضيتنا المقدسة» أكثر مما أعطاها المسؤولون العرب، من وقته ومن اهتمامه بابتداع «التسويات» التي تقضم الحق الفلسطيني في ما تبقى من الأرض… ثم يذهب إلى الدول العربية التي يراها ما تزال معنية بالقضية يطلب إليها أن تساعده ليس مع الفلسطيني بل عليه، ليتلقى الشكر والتقدير على جهوده الخيرة، وعلى موقفه الصلب من الأطماع الإسرائيلية!
والزمن لا يرحم.. وتكاد تصدق نبوءة ديفيد بن غوريون وهو يرد على تحذير بعض أصدقائه من خطورة قضية فلسطين على المشروع الإسرائيلي، وكان – بعدُ – في البدايات، إذ قال لهم: هناك قضايا لا تحل، اتركها فقط لتشيخ ثم تموت.
ها هي القضية المقدسة تكاد تكون متروكة للريح، تنطق باسمها سلطتان: واحدة شرعية ممثلة بـ«منظمة التحرير» التي باتت تسكن الذاكرة تاركة لوريثتها «الحكومة» أعباء رواتب الإدارة التي أهمها الشرطة (علنية وسرية)… وهذه الرواتب أزمة مفتوحة يدور «الرئيس» بين الحين والآخر في رحلة جباية قد تفرض عليه مواقف محرجة، بينها الاستعطاف والتباكي واستدعاء «النخوة العربية» لتمرير بعض الشهور… لعل الله يفرجها.
أما السلطة (غير الشرعية) في غزة فتواصل بناء «دولتها» على الرمل، معتمدة على الكرم الإيراني وتهافت السلطة الأخرى في رام الله، وانشغال العرب بهمومهم داخل أقطارهم وابتعادهم عن «حقل الألغام الفلسطيني» بأعبائه الثقيلة، تاركة للسلطات الجديدة أن تتحمل عبء واحد من قرارين كلاهما خطأ كبير: أن تواصل حصار القطاع والتضييق على أهله في ما يشبه «الحرب على الجياع»، وهو أمر لم يقدم عليه العدو الإسرائيلي ذاته، أو أن تدير ظهرها مشددة الحصار العسكري بما يزيد من حدة «العداء الشعبي» لفلسطين، كقضية مقدسة ولشعبها المظلوم والمعرّض لقمع مفتوح في ظل تخلٍ دولي وانصراف عربي وخلافات داخلية تكاد تكون – بنتائجها – أقسى من الحرب الإسرائيلية.
…ولا احد يهتم، فلكل مسؤول عربي في أية دولة، من المشاكل الداخلية والهموم الثقيلة ما يبعده عن هذه القضية التي كانت مقدسة والتي تحولت الآن إلى عبء سياسي واقتصادي وعسكري خطير…
وربما يتمنى العديد من المسؤولين العرب أن تتحقق نبوءة بن غوريون فيأكل النسيان مع إسرائيل «قضية العرب الأولى»، ويتحول الوزير الأميركي كيري إلى تقبل التعازي في القضية التي أعطاها معظم وقته، ولكنها دخلت في موت سريري سيطول.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية