تعيش مصر مخاضاً عسيراً للثورة التي لمّا تكتمل والمهددة الآن بالثورة المضادة التي تلبس لبوس الدين أو باللجوء إلى الجيش لمواجهة قد تسيل فيها الدماء، وقد تنتهي الثورة بحكم عسكري «مؤقت»… في انتظار أن تهدأ الأحوال التي لن تهدأ في المدى القريب.
ذلك أن استكمال الثورة أخطر مما يقدر المتحمسون لها ولا تنظيم قائداً يجمعهم ولا برنامج واضحاً يعتمدونه.
وإلقاء العبء كله على الجيش لن ينقذ الثورة وإن كان يسيء إلى الجيش ويحوله من قوة حماية، كانت ضرورية في لحظة الولادة والتقدم للإمساك بالقرار في البلد، إلى سلطة «فعلية» لأن «الأمن» شرط حماية للثورة والعبور بها إلى… النظام الديموقراطي الذي سيوفر ذلك «الأمن» ولادته طالما استمر مهدداً والاستقرار بعيد المنال.
لقد بات «الميدان» بحاجة إلى «حماية» بينما لم ينتظر الطوفان البشري، في مثل هذه الأيام من العام 2012 مثل هذه الحماية، بل إنه كان يخاف من الجيش على ثورته.
على أن الجيش ليس حارساً مجانياً في غياب حياة سياسية لها قواها الحية وعندها مشروعها لبناء عهد جديد بحكم، له برنامجه المحدد وليس مجرد أفكار لسلطة متوهمة تقارب الأحلام.
لقد علمت تجربة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر العرب الكثير الكثير..
أول الدروس: أن القائد الفرد ومهما كان عظيماً لا يمكنه أن يعيد، بجهده لوحده، بناء الدولة بمؤسساتها جميعاً، المدنية والعسكرية، الاقتصادية والاجتماعية، وما اتصل بذلك من حماية للعلاقات مع الدول الصديقة منها والمعادية والمحايدة… وعلينا أن نتذكر دائماً أن أنور السادات قد استطاع أن يمحو ركائز دولة جمال عبد الناصر بأسرع من أي توقع، ومن دون كلفة تذكر، عبر الاستعانة بجيشه ذاته بعد تبديل قيادته وتذرعه بالتحرير.
لقد تمكن السادات أن يقلب توجهات الدولة جميعاً، بما فيها الجيش: اعتقل رجال الدولة «القديمة» بلا مقاومة، ولم تخرج الجماهير التي فقدت قائدها الراحل للدفاع عن أعوانه.
.. ومتى اختفى القائد الفرد فإن أحداً لا يستطيع أن يضمن أو يحدد إلى أين يمكن أن يذهب الأعوان، خصوصاً إذا ما أحسوا أن خيمة الأمان قد انحسرت وأن قائدهم ـ حاميهم قد اختفى.
فالنظام ليس هو القائد، بل إن القائد التاريخي يكون متقدماً على نظامه ـ وهو في الغالب الأعم موروث من الماضي مع بعض التعديلات على السطح ـ وأحيانا ما تفصل بين مثل هذا القائد والنظام مسافات ضوئية.
وفي ما خص تجربة عبد الناصر، فإنه كثيراً ما تبدّى وكأنه يغادر نظامه لاتخاذ القرارات الخطيرة التي ما كان أهل النظام، أي المساعدون والأعوان والخبراء، لتواتيهم الجرأة على اتخاذها… بل إنهم كثيراً ما فشلوا في الدفاع عنها وتبريرها، فأساءوا إلى القائد وإلى القرارات ذاتها عند التطبيق.
وأن يقال إن نظام عبد الناصر قد قتله ليس الرثاء المناسب لهذا القائد التاريخي الذي حكم ـ أحياناً كثيرة ـ من خارج نظامه ومن خارج الدولة العميقة.
فالنظام قد يبتلع إنجازات القائد وقد يعطلها أو يحور دلالاتها عند التنفيذ بما يخرج بها عن أهدافها الأصلية.
صحيح أن قائداً تاريخياً مثل جمال عبد الناصر كان يستطيع في اللحظات الحاسمة، أن يستعين بجماهير الثورة ضد نظامه، كما حدث في أعقاب هزيمة 5 حزيران 1967، لكن ذلك ما كان ممكناً لولا أن هذه الجماهير كانت تراه «منفصلاً عن نظامه»: اكبر منه وأقرب إليها منه، وأصدق في التعبير عن طموحاتها وأهدافها.
على أن هذه الجماهير ذاتها نزلت إلى الشارع، بعد تسعة شهور من وقفتها الأولى التي تمثلت برفض استقالته إثر الهزيمة، لتطالبه بحقوقها عليه (آذار، مارس 1968)، ولتطالبه بإدخال إصلاحات جوهرية على نظامه فتكسر قوالبه الجامدة أو المجمدة بالخوف من الجمهور، لكي تشارك في القرار.
وكان أعظم ما في النزول الثاني للجماهير أنها لم تر في حقها بالديموقراطية ما يناقض أو ينقص من الاستعداد للعودة إلى ميدان المواجهة مع العدو الإسرائيلي، بل هي أكدت أن الديموقراطية، أي تمكين الشعب من حقوقه، هي التي تحصن القرار برفض الهزيمة، وهي التي تدفع جماهير الشعب ولا سيما الشباب بأن يعطلوا بعض مشاريع مستقبلهم للعودة إلى الميدان واستنقاذ كرامة مصر، شعباً قبل الجيش، وقيادة قبل النظام، بل بفرض هذا القرار على النظام.
هل تنطبق هذه الأمثلة على الواقع السياسي الراهن في مصر؟!
إن مراجعة المسيرة الشعبية منذ الميدان الأول، قبل ثلاث سنوات، إلى هذه اللحظة، تكشف أن الجماهير أعظم وعياً مما يقدر المنظرون والمتصدون للنطق باسمها… ويمكن التوقف أمام محطات محددة في هذه المسيرة:
المحطة الأولى ـ في «25 يناير» رفض الشعب أن يسلم قياده للجيش عبر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة المشير الطنطاوي، بل إنه تعامل باسترابة واضحة مع أهداف هذا المجلس غير المسيس، والذي كان مجرد أداة تنفيذية لنظام حسني مبارك.
ولقد تعددت المواجهات بين الجماهير وقوات من الجيش، وارتفعت الهتافات ضد العسكر… خصوصاً وقد اشتبهت هذه الجماهير بشيء من التواطؤ بين المجلس الأعلى و«الإخوان»، وهو تواطؤ سيتكشف جلياً بعد فترة وجيزة، مؤكداً اعتزام هذا التنظيم العتيق التقدم إلى السلطة متخطياً حاجز الرفض الشعبي، مستفيداً من ضعف القوى السياسية المعترضة وتنافرها وعجزها عن صياغة برنامج سياسي واحد يكون قاعدة مواجهتها لمحاولة الإخوان القفز إلى السلطة.
ثم إن «الإخوان» قد استفادوا من شبهة تسليم الجيش بموقعهم القيادي تحت الشعار الديني للتقدم في اتجاه المنصب الذي طالما حلموا به على امتداد ثمانين عاماً من العمل السياسي، تحت الأرض وفوقها: سدة الرئاسة.
لقد تجاوز «الانقلاب» في موقف الجيش من «الإخوان» كل التقديرات، إذ انه تجاوز العداء التاريخي الذي يحفظه لهم إلى مداراتهم ثم إلى التقرب منهم أو تركهم يتقربون منه، ثم إلى عدم اعتراض خطتهم للقفز إلى موقع القرار في البلاد..
فقط بعد نجاح «الإخوان» في الوصول إلى الرئاسة انتبه الجيش، بشخص قيادته، إلى خطورة ما أصاب الثورة، وبالتالي إلى خطورة ما سوف يصيب مصر جميعاً من ضرر بالغ في رصيدها العربي والدولي… لا سيما وأن حكم «الإخوان» لم يتأخر في الكشف عن توجهاته: سواء بالنسبة إلى العلاقة مع واشنطن، أو خاصة بالنسبة للعلاقة مع العدو الإسرائيلي (الرسالة التاريخية التي بعث بها الدكتور محمد مرسي إلى شيمون بيريز).
ثم إن «الإخوان» كانوا يتعجلون السيطرة الكاملة على مرافق الدولة جميعاً.. وهكذا خلعوا المجلس العسكري، بعد حفلة نفاق ـ بالأوسمة ـ لرئيسه وأركانه، واندفعوا بسرعة إلى صياغة مشروع دستور يلائم هدفهم بأن يكونوا «الحزب الحاكم»، وإلى الأبد إذا ما أمكنهم، وباشروا الاستيلاء على المواقع الحاكمة في السلطة وفي القضاء خاصة… بينما توزعت جماهير «الميدان» بين اليأس والعجز عن مقاومة هذا المد الإخواني، خصوصاً مع غموض موقف الجيش، ووضوح السيطرة الإخوانية على القوى الأمنية.
في هذا المناخ تحرك الجيش: أظهرت قيادته انفصالها عن حكم «الإخوان»، وخرج وزير الدفاع عن «انضباطه» العسكري داعياً الجماهير إلى إعلاء صوتها وتأكيد موقفها من الحكم القائم، وكانت التظاهرات غير المسبوقة التي احتشد فيها الملايين رفضاً لحكم «الإخوان».
هل كان ذلك الرفض يعني، آليا، التسليم بحكم العسكر، أم أن الجماهير التي لم تجد لها قيادات مؤهلة لهذا الدور التاريخي وتنظيمات ذات صدقية وقدرة على التقدم نحو الحكم ببرنامج محدد وله القدرة على استقطاب الأكثرية اللازمة للتغيير، غير عبد الفتاح السيسي قائداً.. وبرنامجاً؟
لعل هذه التساؤلات قد باتت من الماضي.
لكن إسقاط الماضي لا يعني بالضرورة النجاح في بناء المستقبل.
وبالتأكيد فإن مصر ستعيش ولفترة ليست قصيرة مخاضاً أليماً للتخلص ليس فقط من تركة «الإخوان»، بل كذلك من تركة السابقين عليهم.
وبالتأكيد فإن العرب جميعاً يتابعون مسيرة مصر في قلب الصعب متمنين لها النجاح ليستطيعوا التحرر من مناخ الكارثة الذي يسيطر عليهم في المشرق والمغرب والتطلع بأمل إلى المستقبل.
إن نجاح مصر هو الأمل باستنقاذ الأمة.
تنشر مع جريدة «الشروق» المصرية