هل هي مصادفة أن تشن إسرائيل حربها الثالثة أو الرابعة أو الخامسة على غزة، في هذا التوقيت بالذات، وبينما معظم الدول العربية في شغل شاغل عنها، نتيجة انخراط الأنظمة في حروب دفاع عن وجودها داخل حدودها؟
سوريا المنهكة بالحرب فيها وعليها منذ أكثر من ثلاث سنوات ما يزال جيشها يقاتل في أنحاء عدة تمتد من أقصى الشمال في قلب حلب وعند الحدود مع تركيا إلى أقصى الجنوب، عند الحدود مع الأردن، على تخوم الجولان الذي تواصل إسرائيل احتلاله، مع معارك ما تزال مفتوحة في الغرب، عند الحدود مع لبنان، فضلاً عن حرب الاستنزاف المفتوحة في غوطة دمشق ومن حولها.
أما العراق فكان مشغولاً (وما زال) بمكافحة الفتنة السنية ـ الشيعية التي يؤججها الصراع على السلطة بين التشكيلات المختلفة التي جاء معظمها من المهاجر، حيث كانت المعارضة تعيش لائذة بحماية هذه الدولة أو تلك، لا فرق بين أن تكون عربية (كسوريا) أو أجنبية (كبريطانيا ودول غربية أخرى وصولاً إلى واشنطن)… قبل أن يدهمه اجتياح «داعش» لمدينة الموصل ومحافظة نينوى ثم تمدده في أكثر من ناحية عراقية وتطويقه الإقليم الكردي في الشمال العراقي، فضلاً عن تمركزه في بعض الشرق السوري (القامشلي ودير الزور، حيث النفط).
وأما مصر فمشغولة بمشكلاتها الداخلية الثقيلة، وأخطرها «الحرب المفتوحة» على «الإخوان المسلمين» ومعهم، وهي تتمدد عبر تشكيلات أصولية تتمركز في صحراء سيناء وتحاول فتح جبهة قتال متنقل في المدى المفتوح على السلاح الليبي وعلى المخابرات الاسرائيلية وعلى كل من يريد المشاغبة على الحكم الجديد في القاهرة.
فأما ليبيا فتجتاحها الحرب الأهلية شرقاً وغرباً، ممزقة أوصالها، مهددة تونس،
وأما الجزائر فتخاف النار الليبية وكذلك النار الأصولية المتقدمة اليها من أفريقيا السوداء عبر مالي والجنوب الليبي،
وأما المغرب فبعيد بعيد..
غزة وحيدة إذن، والسلطة أعجز من أن تنجدها، ومعظم العرب يتذرعون بأنهم ضد الهيمنة الاخوانية على هذا القطاع المحاصر بالنار الإسرائيلية، براً وبحراً وجواً، وبالتالي فهي معركة لا تعنيهم مباشرة، حتى لو فهم هذا الموقف وكأنه انحياز إلى العدو الإسرائيلي.
على هذا، تعيش المنطقة التي كانت لها هوية عربية محددة، والتي فقدت وعيها بذاتها، وتفتقد الآن الطريق إلى مستقبلها، حالة من الضياع وافتقاد اليقين، في حين تتقدم الدول الكبرى بالقيادة الأميركية ومعها إسرائيل، لتقرر لها مصير «دولها» بعد النظر في هويتها بأصولها التاريخية، متجاوزة واقعها السياسي الراهن والمهدد بالسقوط.
فجأة عاد المشرق العربي، أو بلاد الشام تحديداً، مجموعات متنافرة من «الهويات» العرقية والدينية والطائفية والقومية، لا رابط بينها ولا أرض تجمعها فتعطيها أصالة الانتماء، ولا علاقات راسخة في ما بينها على امتداد التاريخ.
اختفت أو أُخفيت الهوية العربية الجامعة، وتم تشويهها وتحقيرها، واتهامها بالعنصرية واضطهاد الأقليات، القومية منها والدينية،
صار شعب العراق، مثلاً، مجاميع من العناصر والمكونات. الأعرق والثابت على مر الدهور هم الكلدان والآشوريون والسريان، ومعهم الصابئة والإيزيديون، ثم يأتي الأكراد الذين ينتبهون بعد دهور أن الإيزيديين منهم، وأنهم حماة الأقليات في المناطق الجبلية من شمال العراق، مع التمدد في اتجاه الشرق والشمال الشرقي في سوريا.
فأما «العرب» في بلاد الرافدين فهم شيعة وسنة فرضت عليهم لعبة السلطة أن يكره بعضهم البعض الآخر إلى حد الاقتتال، وأن يصطرعوا على السلطة فيُسقطوا المحرمات وهم لم يتورعوا في فترات معينة عن الاستعانة بالاحتلال الأجنبي (بريطانياً كان أم أميركياً) ضد بعضهم البعض.
وفي العراق تحديداً يستحضر من تاريخه محطات «الفتنة» وهي كثيرة لتبرير الهيمنة على السلطة تحت ذريعة الخوف من الآخر (الشقيق)… علماً بأن الانتماء الطائفي للعشائر الكبرى في العراق يتصل بالجغرافيا، أي مناطق تواجدها، اكثر من اتصاله بالدين… ومن هنا فإن العديد من العشائر «سنية» في الشمال «شيعية» في الجنوب و«مختلطة» في بغداد.
كان الصراع دائماً على السلطة، أما الدين، او الطائفة، فمجرد ذريعة لتبرير الهيمنة او لتسعير الشعور بالتهميش لاستثماره في تعديل موازين الشراكة في السلطة… وبالطبع فإن كل ذلك يوسع المجال أمام التدخل الأجنبي بمقدار ما تزداد الخلافات حدة منذرة بحرب أهلية، أو بفتنة لها سوابقها الدموية في تاريخ العراق.
بالمقابل صار شعب سوريا، بدوره، أكثرية «سنية» مغلوبة على أمرها تحت هيمنة أقلية «علوية»… أما بعد تفجر الأوضاع في العراق فقد حاول الغرب (ومعه بعض العرب) تصوير سوريا كمجمع للأقليات قومية وعرقية ودينية وطائفية: فهناك العرب والسريان والكلدان والآشوريون والترك والأرمن، وهناك الأكثرية السنية، وإلى جانبها العلويون والمسيحيون (بغالبية أرثوذكسية وأقلية مارونية) والدروز والاسماعيليون مع أقلية شيعية.
إسقاط الأكثريات أو الطعن بجدارتها في تسلم السلطة هو شرط تبني مطالب الأقليات بالمحاصصة والشراكة في السلطة ولو بأكثر مما هو ضروري لتوكيد وحدة المجتمع، وبالتالي وحدة الوطن ودولته.
ولقد سمح فشل الحكم في العراق، الذي دمغ بالعصبية الشيعية، بتبني الغرب المطالب القومية للأقلية الكردية في الشمال العراقي بتحويل «الإقليم» المتمتع بالاستقلال الذاتي، داخل الدولة العراقية إلى «مشروع دولة» بقوة الأمر الواقع: فالدولة المركزية في بغداد متصدعة، والخلافات تعصف بالكتل و«الكيانات» السياسية القائمة أصلاً على قاعدة مذهبية… ثم إن الصراع مفتوح بين قوى التأثير الخارجي: فصيغة الحكم القائم هي من إبداع الاحتلال الاميركي للعراق (سنة 2003)، إذ وزع قمة السلطة على قاعدة طائفية ـ عنصرية، إذ أعطيت رئاسة الدولة للأكراد من دون صلاحيات فعلية بحيث يكون «الرئيس» أقرب إلى الرمز، في حين أعطيت رئاسة الحكومة (السلطة التنفيذية، أي الفعلية) للشيعة (العرب) بينما أعطيت رئاسة المجلس النيابي للسنة (العرب).
الطرف الثاني المؤثر في صيغة الحكم العراقي هو إيران التي قاتلها حكم صدام حسين لمدة سبع سنوات طويلة حافلة بالقتل والتدمير… ولقد دمغ الشيعة العرب في العراق بالولاء لإيران، بغض النظر عن تاريخهم القومي ودورهم الوطني في بلادهم،
وهكذا تمت إقامة سلطة قابلة للانفجار في أية لحظة نتيجة تغليب العوامل الطائفية والمذهبية والعنصرية على الرابط الوطني، مع الأخذ بالاعتبار أن هذه العوامل تتسع للنفوذ الأميركي ومعه النفوذ الإيراني الذي سمحت له الحرب في سوريا وعليها بالتمدد، خصوصاً أن له نقطة ارتكاز أساسية في لبنان عبر الدعم المفتوح الذي تقدمه طهران للمقاومة (حزب الله) في مواجهة إسرائيل.
المهم أن الهوية العربية المؤكدة لهذه المنطقة قد تعرضت للتشويه بحيث بات ينكرها بعض أهلها.
بالمقابل تم تفريع الإسلام، طائفياً وعنصرياً، فصار الانتماء المذهبي ـ العنصري هو الملجأ، خصوصاً أن هذا التفريع يمهد للتدخل الأجنبي ويمكّن له.
في هذه الأجواء السائدة في كل من سوريا والعراق، سقط تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» من الفضاء الخارجي، واكتسحت جحافله الجرارة ثلث الأراضي العراقية أو يزيد، بعدما سقطت بين يديه الموصل، العاصمة الثانية للعراق بعد بغداد، من دون قتال.
كانت دول الخليج أو معظمها طرفاً في الحرب على سوريا وفيها، بالشراكة المعلنة مع تركيا، وليس سراً انها تبنت العديد من التنظيمات المقاتلة، أولها «الجيش الحر» ثم استولدت عدداً آخر من التشكيلات متعددة الاسم والتوصيف وإن ادَّعت جميعها الانتماء إلى «الإسلام» بصيغة أو بأخرى في سياق الحرب على «النظام العلوي الكافر» القائم في دمشق.
.. ثم إنها كانت تحاصر الحكومة القائمة في بغداد، وتشجع القوى المعارضة لها، تحت الشعار المذهبي، وبالتعاون مع تركيا، بهذه النسبة أو تلك.
أي ان «الأرض» كانت جاهزة لفتنة كبرى جديدة بين السنة والشيعة تمتد من بلاد الرافدين إلى بلاد الشام، وهي فتنة لها من يغذيها من «دول الجوار» كما من الدول البعيدة، على أن يتكفل «الأغنى» بكلفة السلاح والتجهيز.
… وهكذا فقد وصلت جحافل داعش في موعدها بالضبط: الفتنة معززة بالفساد تشغل السلطة في بغداد عن مهماتها في حماية البلاد، في حين ان الفصائل المسلحة للمعارضات السورية متعددة المنشأ والشعار تشغل الحكم في سوريا، بل وتخرجه من بعض مراكز البلاد وجهاتها، لا سيما تلك الواقعة شمالاً عند الحدود مع تركيا أو جنوباً عند الحدود مع الأردن (وضمنها أو قربها الجولان الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي)، أو في أقصى الشرق، عند التخوم العراقية وحيث يشكل الكرد نسبة ملحوظة من الأهالي ومعه بعض الأقليات السريانية والكلدانية المسيحية.
وجد «الخليفة أبو بكر البغدادي» الطريق سالكة وآمنة إلى الموصل، فاتخذها عاصمة للاعلان عن انتصار دعوته، واعتلى منبرها داعياً المسلمين إلى بيعته وإلا فالسيف. ولم يُضِع الوقت هدراً بل دفع جحافله باتجاه أنحاء عراقية أخرى، مستنداً إلى «تحالف الضرورة» او التلاقي على هدف مشترك بينه وبين قدامى البعثيين المطارَدين بعد سقوط نظام صدام حسين، ومعهم بعض الفرق الصوفية كالنقشبندية. وهكذا اجتاح كامل محافظة نينوى، وأعمل السيف في الأقلية الإيزيدية في سنجار وجوارها، وأرسل فصائل مقاتلة في اتجاه تكريت، بينما احتل تقريباً المناطق المتاخمة للحدود مع السعودية، وكذلك اقترب من الحدود مع إيران مواصلاً إنذاراته للشيعة بعدما أسقط عنهم إسلامهم.
من أين دخلت هذه الجحافل التي اجتاحت غرب العراق وتقدمت حتى الموصل؟
واضح أن العديد من هذه القوات قد جاء من تركيا، متقدماً بغير قتال يذكر في الشرق السوري (منطقة الحسكة ـ دير الزور ـ مع توسع في اتجاه الرقة).. مما يشير إلى تسهيلات تركية، ربما تمثلت بإغماض العيون عن الحشد الداعشي، وربما تجاوزته إلى شيء من الدعم… خصوصاً إذا ما تذكرنا ان تركيا هي المشتري الوحيد للنفط السوري الذي صادرت قوات داعش بعض منابعه في المناطق التي وضعت يدها عليها في شرق سوريا. وليست تهمة مهولة بعد ذلك ان تبيع حكومة اردوغان هذا النفط المنهوب إلى إسرائيل، بأقل من السعر العالمي، موفرة لداعش أسباباً إضافية من الدعم «عملة صعبة».
… مع غياب مصر، بثقلها المعنوي، تختل الموازين وتتداخل المفاهيم، وينتعش مناخ الفتنة المذهبية، فتسقط السياسة.
ومن دون سياسة تسود مفاهيم دينية مضللة، وتختلط الأمور على الناس، كما حالنا هذه الأيام.
تنشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية