تتبدى صورة المشرق العربي خاصة، والوطن العربي عموماً، وكأنه أرخبيل من الجزر المتخاصمة تفصل كل «دولة» عن الأخرى بحور من دماء «الأهل» على طرفي الحدود.
في حالات أخرى مشهودة يجري تفجير الدم داخل «الدولة»، أي دولة، فتتحول الى جزر يقتتل أهلها الذين كانوا حتى الأمس القريب أبناء عمومة وأبناء خؤولة وأصهاراً.
فجأة، لم تعد اليمن أرضاً لدولة واحدة بشعب واحد له تاريخه الممتد فيها آلافاً من السنين، بقبائله وعشائره، من كانوا ذات يوم صناع التاريخ بوصفهم جيش الفتح الإسلامي ومن قبل بناة سد مأرب في امبراطورية الملكة الأولى بلقيس.
اختفت الدولة ـ الهوية في اليمن وأخفيت لتعود جهات جغرافية، شمال، جنوب، شرق، غرب، وتم تقسيم الشعب بطوائفه،ثم بمذاهبه، ثم بتفرعات داخل المذهب الواحد. صار بعض الزيديين فجأة «شيعة» ليصيروا إيرانيين، وصُيّر البعض الآخر من الزيديين حلفاء للمتطرفين السنة الوهابيين.
صار الحوثيون الذين كانوا، حتى الأمس، زيديين كغيرهم، شيعة مختلفين، بل «إيرانيين» وصار وهابيو السعودية مناصرين للزيديين في صنعاء، الذين كانوا يرونهم في الأصل كفرة، ضد الزيديين من الحوثيين الذين صاروا شيعة وفرساً.
في العراق لم يكن يكفي الانقسام على أساس عرقي وإثني، كان لا بد أيضا من الصراع المذهبي لكي يرتاح الاحتلال الأميركي ويهنأ في عيشهم أهل الجوار الذين رأى أصحاب السلطة منهم في العراق القوي خطراً عليهم، خصوصاً بعدما تفجر الذهب في أرضهم فجعلها جنة تجري من تحتها أنهار الذهب والماس والزبرجد.
هل هي مجرد مصادفات أن تضرب الدولة المركزية في الأقطار العربية المؤثرة مصر والعراق واليمن فضلاً عن السودان… دون أن ننسى لبنان القوي بنموذجه الفريد؟!
لعل ذلك كان شرط قيام الإمبراطورية الإسرائيلية تحت مظلة الإمبراطورية الأميركية.
إذا صارت إسرائيل دولة مركزية قوية في قلب المشرق قادرة على حماية التفتت فمن الضروري ضرب أو تغييب الدول المركزية القوية بتاريخها كما بوحدة شعبها وقدراته.
وما دامت قد عُزلت مصر بالصلح بشروط إسرائيل وأخرجت من الصراع فقد باتت إسرائيل، أو هي تطمح لأن تكون الدولة ـ المركز، في هذه المنطقة التي «كانت» عربية!
ولا بد من حماية إسرائيل بأسوار من الدماء.
فأما مصر فقد ارتفع سور الدماء الذي يفصلها عن فلسطين التي صارت إسرائيل عالياً عبر المواجهات التي امتدت بين 1948 و1973، ثم جاءت معاهدة الصلح لتعليه بسور مصفح يعزل مصر عن محيطها ـ مصدر أمنها الاستراتيجي ـ وصارت سيناء مشتى للسياح مصرية الراية لكنها دولية الوظيفة. هي ليست مصر تماما. هي كوزموبوليتية وشرفة لإسرائيل.
وأما الأردن الذي أنشئ بالأصل ليكون نواة السور الحامي للمشروع الإسرائيلي من قبل أن تقوم دولته، فقد أدى وظيفته على أكمل وجه: في البدء كان عليه أن يمتص الجزء الآخر من فلسطين الذي لم يكن المشروع الإسرائيلي قادراً على استيعابه، (الضفة الغربية لنهر الأردن بسكانها الذين يزيدون عدداً عن قبائل البدو المتناثرة في تلك القطعة من بادية الشام التي صارت إمارة هاشمية ولم تصبح مملكة إلا بعدما استوعبت المليون فلسطيني الذين سلخوا عن هويتهم فصاروا أردنيين).. بينما سلخت الهوية عن فلسطينيي الداخل فصاروا «عرب 1948»، في حين صارت غزة قطاعاً تحت الإدارة المصرية وصار أهلها «غزازوة».. ولعلهم الآن في واقع انفصالهم عن «السلطة» في الضفة الغربية فلسطينيون بهوية قيد الدرس.
لم يتبق «فلسطينياً» من بين الفلسطينيين إلا «اللاجئ» الى أية أرض خارج فلسطين: في لبنان، في سوريا، وفي ديار الشتات.
وهكذا تم تحصين إسرائيل بأسوار من دماء الفلسطينيين الذين توزعوا أيدي سبأ كلاجئين يتحدرون من أصل فلسطيني ويتوزعون من حول فلسطين دون أن يكون لهم لا حق العودة إليها ولا حق الحصول على هوية البلاد التي «استضافتهم» مكرهة.. ومكرهين!
ليس من حق أي منهم أن يكون مواطناً. هو إما لاجئ وإما نازح وفي الحالين فهو ضيف ثقيل: إن قبل جنسية دولة أخرى فهو خائن لقضيته، وهو في كل حال طارئ على البلد المضيف قد يخل بتوازناته الديموغرافية.
وفي الحالات جميعاً تشطب الهوية الفلسطينية عن كل من أجبر على الخروج من فلسطين. كذلك عن كل من بقي منهم داخل «الكيان الإسرائيلي» أو دولة يهود العالم. فلا بد من طردهم في غدٍ قريب لتطهير أرض الميعاد منهم.
كل يهودي في العالم إسرائيلي. إسرائيل هي دولته سواء أكان فيها أم خارجها. أما الفلسطيني فلا مكان له على الأرض. يجب أن تنتفي هويته لينتفي حقه بأرضه. الأرض لمن أخذها بالسيف. أما الهوية فلا معنى لها خارج الأرض. أرض إسرائيل ـ التي كانت فلسطين ـ هي هوية اليهودي حيثما كان، أما الفلسطيني فقد ذهبت هويته مع أرضه. لا يهم أن يكون قد أخرج منها بالقوة. لا يهم أن يكون قد قدم آلاف الشهداء من أجل أن يبقى فيها ولو جدثاً. من خرج منها خرجت منه، ومن دخلها من اليهود أكد إسرائيليتها.
العروبة ليست هوية، متى اندثرت فلسطين لم يعد للعروبة معنى. لو أن العروبة هوية لكانت وطناً. لذا صار الفلسطيني لاجئاً الى هوية دول أخرى ناطقة بالعربية لكنها ليست وطناً للعروبة. هو لاجئ الى لبنان، الى سوريا، الى الأردن، الى العراق قبل الاحتلال فلما لفظه الاحتلال الأميركي لم يجد من يقبله.
وهو لاجئ حتى لو شكل أكثرية في دار اللجوء، كما هي الحال في الأردن. فلسطين ليست جغرافيا. هي قضية. والقضية لا أرض لها. قد يكون العالم كله أرضها. وقد تحيا في الوجدان، بلا أرض. ألم تكن تلك حال الإسرائيلي خارج أرض الميعاد؟ ولأنه لاجئ فلا دولة له/ أو لا يجوز أن تكون له دولة.
نظرة واحدة الى الخريطة تكشف أن إسرائيل قد أحاطت نفسها بأسوار من دماء مواطني الدول المجاورة.
بينها وبين مصر سور عال من دماء المصريين يحجبها عنهم ويحجبهم عنها.
بينها وبين لبنان أسوار بعضها من دماء الفلسطينيين وبعضها الآخر من دماء اللبنانيين… الذين ما زالوا يتوقعون أن تجدد حربها ضد وطنهم الصغير الذي أنتج مقاومة شعبية قادرة ومؤهلة على التصدي ومنعه من تحقيق النصر، بل على إلحاق الهزيمة بجنرالاته وقوة النخبة فيه بعد صمودها الأسطوري لمدة ثلاثة وثلاثين يوماً في مواجهته قبل ثلاث سنوات..
أما بينها وبين الأردن فأسوار عدة: أولها من دماء الفلسطينيين الذين شردتهم عن وطنهم والثاني من دماء ضحايا الحرب الأهلية التي تم تنظيمها في الأردن بين الفلسطينيين والأردنيين، والتي بنتيجتها تم إخراج فكرة المقاومة من «الإمارة» التي جعلتها النكبة «مملكة» وجعلت أكثرية سكانها الفلسطينيين أردنية هاشمية لا تمت الى فلسطين بصلة.
اُحل النسب الشريف محل الأرض المقدسة. من يفاضل بين الأرض وبين الدوحة النبوية الشريفة؟
بين إسرائيل وبين سوريا سور من دماء السوريين.
أما التصفيح فعلى الأمم المتحدة وعبر قرارات مجلس الأمن والمؤتمرات الدولية للتسوية: الأرض مقابل أمن النظام.
الأسوار تنقل المشكلة الى الداخل.. العربي.
تصير فلسطين مشكلة داخلية في كل دولة عربية.
وتتبدى الملامح الأولى لمشروع التحالف المقبل بين إسرائيل والأنظمة العربية على قاعدة مكافحة الطموح الفلسطيني للتحرير… والعودة، والطموح الشعبي في كل قطر للتقدم والديموقراطية.
فالفلسطينيون ممنوعون من البقاء في أرضهم.
وهم ممنوعون من الكفاح للعودة اليها،
وهم ممنوعون من أن يصيروا مواطنين في دول أخرى، بذريعة حفظ هويتهم وبالتالي حفظ قضيتهم.
والقضية تستعصي على أن تكون أرضا ووطناً ودولة.
لقد أنزل الإسرائيليون /اليهود/ قضيتهم الى الأرض بالقوة فأقاموا دولتهم إسرائيل وعجز العرب عن حماية الفلسطينيين فأخرجوا من أرضهم الى الشتات الذي لا هوية له.
ها هي إسرائيل اليوم قلعة محصنة بأسوار من دماء العرب والفلسطينيين أساسا حدودها محروسة بقوات أوفدها العالم جميعاً / وقرارات تجسد إرادة العالم وهي أقوى من الجيوش.
هل من المبالغة القول إن العرب خارج فلسطين قد تحولوا الى حرس حدود لإسرائيل ـ وقد انتقل عداؤهم من الإسرائيليين الى الفلسطينيين ـ الذين باتوا يشكلون أثقالا على ضمائرهم كما على أوضاعهم الأمنية والاجتماعية والسياسية؟!
أما وقد انصرف النظام العربي عن قتال إسرائيل فمن الطبيعي أن يتعرض الى هجوم السلام بالشروط الإسرائيلية، وهي أعظم ضراوة وأعظم كلفة من الحرب العسكرية.
إن الداخل في أي دولة عربية هش سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ومعرفياً وليس له من مصادر قوة إلا الأمن… والأمن ليس ضد مهادنة إسرائيل، فالداخل ـ عنده ـ هو مصدر الخطر. وواجبه حماية النظام لا الأرض.
أما وان الداخل هو مصدر الخطر فإن الخارج يصبح مصدر الأمان للنظام. والخارج لا فرق فيه بين الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي والأقوى في المنطقة أي إسرائيل، وتصبح المهادنة شرط حياة للنظام.
والمهادنة تتحول الى مبادرات، والمبادرات الى مشاريع للتسوية يعرضها الآن الأقوى على الأضعف فلا يملك الأضعف أن يرفضها فينصرف الى محاولة تحسينها لتغدو مقبولة، بمعنى أن يقدر على تمريرها من دون إثارة موجة غاضبة تؤذيه.
بنظرة واحدة الى خريطة ما كان يسميه الحالمون «الوطن العربي» يتبين أن هذه المساحات الشاسعة من الأقوام والأحلام والقدرات والخيبات قد باتت أرخبيلاً تفصل بين جزره المتباعدة بحور من دماء أبنائها، مما يفصل الحاضر عن المستقبل بأسوار من شهداء الغفلة والغلط والغرض وغياب الوعي وإغماء العقل.
[ تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان