يضج الشارع العربي بطوفان من الأسئلة حول «الثورة»، وقد تعددت أمامه نماذج الانتفاضات الشعبية بشعاراتها التي تتوحد حول إسقاط حكم الطاغية ثم تفترق بعد ذلك، وقد تتناقض في تصورها للنظام الجديد.
ذلك أن «الثوار» المتعددي المنابت الفكرية والتوجهات السياسية لا يملكون نموذجاً موحداً للنظام الذي يريدون.. فلا الظروف العامة ولا أحوالهم الخاصة كانت تسمح لهم بوضع مثل هذا التصور من قبل، فذلك ترف فكري لم تكن ُتتيحه ظروف ما قبل إسقاط الطغيان.
لقد تسارعت الأحداث متجاوزة حسابات «الميدان» واستعدادات الثوار، واندفع «الشارع» الى ابعد مما كانوا يقدرون. ثم ان أنظمة الطغيان، عموماً، تكشفت عن نقص في القدرة على الصمود، في تونس بداية وبعدها في مصر خاصة، ولعل بعضها قد باغت الثوار بالسقوط قبل ان يكونوا قد استعدوا لمرحلة ما بعد عهدها الطويل، وأعدوا مشروعهم المتكامل للعهد الجديد.
صحيح انه كان لحكم الطغيان، في مختلف الأقطار العربية، سمات مشتركة كالفساد المستشري واهتراء أجهزة الدولة الأمنية منها المتخصصة بل والمتفرغة للمطاردة الدائمة لكل القوى التي يحتمل ان تكون معارضة، او قد تتحول الى المعارضة، ومنع أي تلاقٍ بينها، ودس العناصر المخربة بين صفوفها، فضلاً عن محاولة شراء اللامعين من المعارضين بالمناصب او بالمنافع او بالطرد المريح، كأن يختار بعضهم لتمثيل بلادهم في مؤسسات دولية في الخارج، الخ…
وصحيح ان «الخارج» كان يساعد أنظمة الطغيان في كشف التيارات المعارضة، ونواة القوة التي تتوجه نحو تنظيم صفوفها، وتقديم الرشى لبعض هؤلاء عن طريق المنح الدراسية، او إغوائهم بفتح مكاتب للدراسات المتخصصة وتكليفهم بأبحاث تتصل بتفاصيل، قد لا تبدو لهم مهمة، ولكنها مفيدة لطالبها المهتم بدراسة المجتمع المعني بفئاته المختلفة والبيئات الفقيرة على وجه الخصوص.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد كلفت جهة اميركية رسمية بحاثة معروفين في مصر، بدراسة عن الأحوال الاجتماعية للمناطق المحيطة بثكنات الجيش المصري في الأحياء الفقيرة من القاهرة. ولم يجد الباحثون سبباً لرفض مثل هذا العرض المغري، او حتى للتدقيق في الهدف المقصود منه: فماذا يمكن أن يكون من الأسرار الحربية في بولاق الدكرور، مثلاً؟
بالمقابل فإن هذا «الخارج» لم يكن ليمانع او يبادر الى التصدي لحماية أي نظام عربي يرى انه فقد شعبيته في الداخل، ولم يعد لديه ما يقدمه، خصوصاً أن قوى المعارضة المحتلمة لا يمكن ان تكون من المتطرفين سياسياً أو دينياً. ثم أن الاتحاد السوفياتي بمعسكره الاشتراكي الداعم لثورات الشعوب قد اندثر مخلفاً مزيداً من اليأس او العجز، عند القوى المؤهلة، نظرياً، للتصدي لعملية التغيير… فضلاً عن أن أي نظام جديد سيكون محتاجاً للمساعدة على إعادة بناء الدولة التي دمرها الطغيان بهياكلها العسكرية ومؤسساتها الإدارية، والى عون اقتصادي قد يتخذ شكل القروض او الإعانات، فضلاً عن الخبرة الفنية وطوابير الخبراء المتخصصين في مختلف المجالات، والذين يمكن اقتطاع رواتبهم من أصول القروض نفسها او من إضافتها اليها… هذا اذا ما قفزنا عن دورهم المحتمل في إعادة صياغة الدول بما يناسب المانح والمعين!
وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد حاول الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن يتبدى وكأنه راعي انتفاضة البوعزيزي في تونس، مفترضاً انه قد آن الأوان لاستعادة الموقع الممتاز في «المستعمرة» القديمة… ولكنه سرعان ما هدأ من اندفاعته حين فوجئ بوزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون تهبط على تونس وانتفاضتها وتلتقي رهط «المسؤولين المؤقتين» فيها من رجالات «العهد المباد» الذين اضطرت الانتفاضة الى الاستعانة بهم في المرحلة الانتقالية… ولقد تنصل معظم هؤلاء من «صداقة» فرنسا قبل صياح الديك، وجلسوا اليها يحاورونها باللغة الانكليزية الوافدة ويخرجون من «فرنسيتهم» اليها مرحبين. وكان على ساركوزي ان يعترف بأن الحلفاء الاميركيين قد سبقوه الى تونس بعد ما فتح لهم زين العابدين بن علي الأبواب، مطمئناً الصديق الفرنسي القديم الى ان مصالحه ستكون في الحفظ والصون، ولكنه يحتاج الى المساندة الأميركية لتأمين المساعدات العربية التي هو في أمس الحاجة اليها.
على ان الاميركيين لم يظهروا لبن علي الحد الأدنى من الوفاء المتوقع لصديق قديم، بل انهم لم يترددوا لحظة من التنصل منه حين فر هارباً أمام غضب الثوار، ثم في احتضان الانتفاضة والتحدث عنها وكأنهم آباؤها الشرعيون.
كذلك فإن الإدارة الاميركية تركت ساركوزي يتصدر الدعوة لنجدة «ثوار ليبيا» في انتفاضتهم ضد معمر القذافي وطغيانه، ثم لجموا اندفاعته وكلفوا الحلف الأطلسي بالمهمة مقدمين المساعدة الحاسمة والتي لا يملكها غيرهم: الطائرات من دون طيار لقصف قوافل الدبابات والمدافع وجنود القوات الخاصة التابعين لكتائب القذافي… فما كان من ساركوزي إلا أن أمر طياريه بقصف طائرات الميراج التي كان القذافي قد اشتراها من فرنسا ليجبر «الحكم الجديد» على عقد صفقات مجزية لشراء أسطول بديل من الميراج.
الشعب واحد، والميدان واحد، والأكثرية الشعبية الساحقة تريد إسقاط النظام، وهي قد نجحت في إسقاطه فعلاً في ثلاث من الدول العربية حتى الآن، أولاها تونس وثانيتها مصر والثالثة ليبيا، وثمة أنظمة أخرى في الطريق الى السقوط.
لكن لكل بلد خصوصياته سواء في ما يتصل بموقف الشعب من الدولة، وليس من النظام، او في ما يتصل بتصور البديل من نظام الطغيان.
ليست تونس كمصر، وليست ليبيا كاليمن، وليست سوريا كالبحرين، أما لبنان فخارج السياق، وأما العراق فحاله استثنائية لها علاج مختلف أكثر تعقيداً وهو بطبيعته طويل الأمد. أما الممالك والسلطنات فيحميها ذهبها الأسود الذي له سحره الخاص على الدول، لا سيما الكبرى.
ولقد سقط نظام زين العابدين بن علي بأسرع مما توقع أبطال انتفاضة البوعزيزي، والتي تدحرجت كرة نارها بسرعة استثنائية، مما دفعه الى الرحيل قبل ان يستعد «الشارع» لتسلم السلطة والمباشرة ببناء النظام الجديد. لذلك كان لا بد من الاستعانة بحجارة البعض من أهل النظام القديم، ممن كان لهم بعض الرصيد الشعبي، او كانوا قد ابتعدوا أو أبعدوا عن السلطة، في الفترة الانتقالية التي توجت بانتخابات شارك فيها كل ألوان الطيف السياسي، وكانت تجربة مميزة وشهادة نجاح للمجتمع التونسي الخارج من الأسر بانتفاضة شعبية لم يجد أهلها غضاضة في ان تأتي اليهم وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون مساندة وواعدة بالرعاية… وعلى حساب فرنسا، مرة أخرى.
ليس هناك من نموذج محدد للثورة يمكن استيراده من الخارج. فلكل مجتمع، خصائصه وبينها تجربته السياسية وقواه الحية وطبيعة العلاقات السائدة بين هذه القوى، وقدرات النظام على المواجهة ومدى صلابة أهل الانتفاضة ووضوح الرؤية في ما يتجاوز مرحلة إسقاط النظام.
ولكل بلد أسلوبه الخاص في مواجهة النظام، وفي أهلية القوى السياسية القادرة على الاعتراض عليه والصمود أمامه ببرنامج يستقطب الجمهور لأنه يلبي طموحاته فضلاً عن احتياجاته.
ثم ان العرب غير موحدين إلا في عواطفهم.
وصحيح ان كل انتفاضة قد استفادت من تجارب الأشقاء، لكن لكل شعب تجربته الخاصة عبر تاريخه النضالي وطبيعة النظام القائم.
الطغيان واحد.. لكن الثوار ليسوا دائماً موحدين داخل كل قطر، وليست برامجهم مشتركة أو متطابقة باستمرار. ولا يصح تعميم نسخة موحدة على التجارب جميعاً.
لم يعد في العالم معسكران متنافسان الى حد العداء، ولم تعد العقائد هي الطريق الى التغيير، ولم يعد ثمة نموذج أممي يمكن اعتماده في كل زمان ومكان.
ثم ان الأقطار العربية التي تتشابه أوضاعها الى حد التطابق ممنوعة من التواصل… بل إن أنظمة الطغيان قد أخذتها الى العداء المتبادل عبر حروب الحدود والتنافس على التقرب من مركز القرار في واشنطن.
وأخيراً هناك النفط… وللذهب الأسود تأثير غير محدود على قرارات الدول ومصائر حكامها الذين قد يصنفون «خطرين» على النظام العالمي.
ولو أن لا نفط في ليبيا لسقط القذافي منذ زمن بعيد. كان النفط ترسه ومصدر حمايته. يعطي منه فيشتري الدول والرؤساء والأحزاب والمنظمات السرية والأممية! يساوم الدول الكبرى التي تهتم بمصالحها وليس بالأفكار او أحوال الشعوب.
وفي أي حال، ففي حين أن تونس تتقدم بتجربتها على طريق تجديد النظام بالديموقراطية، فإن تجربة ليبيا ستظل مفتوحة على المفاجآت لزمن طويل، حيث لا أحزاب ولا تنظيمات ولا هيكليات فعلية للدولة… بل إن تهديم الدولة كان احد الأهداف الأساسية لنظام مبتدع «الجماهيرية».
وسيمضي وقت طويل قبل ان تبدع الانتفاضات العربية النظام الجديد الذي تطمح اليه الشعوب التي قهرتها الأنظمة القديمة بما يفوق الاحتمال.
لكن المهم ان يستمر الجهد من اجل استكمال بناء العهد الجديد، بل الزمن العربي الجديد.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية