ستذهب «السلطة الفلسطينية» صاغرة، خلال أيام، الى التفاوض على المفاوضات ـ مرة أخرى ـ مع الاحتلال الإسرائيلي، بالأمر الأميركي المباشر.
لن يكون للتفاوض على التفاوض جدول أعمال محدد ومعلن. تكفي «الصورة» وبعض تصريحات الرضى، أميركياً وأوروبياً، لتبرير العودة العبثية الى الطاولة ـ القفص.
على السلطة أن تنفذ إرادة «راعيها» المستجد، مع انه لم يلتزم بالحد الأدنى من مطالبها المشروعة. لعلها بذلك تضمن للرئيس الأميركي الأسمر، الذي يخالط جذوره الأفريقية بعض النسب الإسلامي، فرصة الفوز بأكثرية الكونغرس. هي تعرف أنها أضعف من أن تؤثر في معركة هائلة كهذه تحتفظ اللوبيات الصهيونية بزمام القرار فيها. لكن الأمر لصاحب الأمر وعليها الطاعة والدعاء!
يمكنها أن تدعي ـ صادقة ـ أن الجميع قد تخلى عن «القضية»، وأن «القضية» أعظم من أن تستطيع تحمل المسؤولية عنها وحدها… وأنها تحاول مرغمة، أن تستنقذ ما يمكن إنقاذه من الأرض، تاركة للأجيال الجديدة مهمة إنجاز ما عجزت عنه.
لكن التفاوض على التفاوض باب دوار، ما إن تدخل فيه حتى تعجز عن الخروج منه، وكلما طال الدوران خسرت المزيد من الأرض، وفُرضت عليك قيود جديدة في الحركة والتصرف: ترى أرضك تذهب منك فتمتلئ بوحوش المستوطنين، وتنبت فيها عشرات المستوطنات الجديدة متخطية الحدود المرسومة على ورق اتفاقات أوسلو ومسلسلات التفاوض المتوالية حلقاتها ـ رسمياً ـ منذ سبعة عشر عاماً متقطعة، يموت أبطالها فيستبدلون إسرائيليا بالأصلب والأشرس، وفلسطينياً بالأعظم استعداداً للتنازل، ويظل للأميركي ـ أبيض أساساً، وأسمر استثناء ـ مهمة رعاية تشييع «القضية» في موكب ملكي مهيب، في حديقة الورود في البيت الأبيض.
كيف تكون «مفاوضات بين عدوين» تلك اللقاءات المفروضة بالأمر بين محتل ـ مستوطن جبار القوة، وبين صاحب الأرض المستضعف الذي غدا لاجئاً في أرضه، لا حقوق له فيها، بما في ذلك العبور من مدينة فيها الى مدينة أخرى، أو إرسال المؤن من ناحية الى ثانية، أو تأمين الرواتب لشرطته المكلفة ـ رسمياً ـ بحماية الاحتلال؟!
أول الشروط للتفاوض: أن تنزع عن الإسرائيلي صفته كعدو غريب، جاء من البعيد قوياً ومعززاً بقوة العالم أجمع، شرقاً اشتراكياً ـ يومذاك ـ وغرباً رأسماليا، فاستولى على الأرض بالقوة، وطرد أهلها الذين ظلوا أهلها على امتداد آلاف السنين.
هو الآن «صاحب الحق التاريخي» في أرضك. أنت الطارئ عليها، المعتدي على حقه فيها، وعليك أن تخرج الى حيث شئت من بلاد العرب الواسعة التي تغنيت دائماً بأنها أوطانك. أتستكثر عليه هذه «الجزيرة الصغيرة» في دنياك البلاحدود. إن لم تخرج طوعاً فلسوف تخرج بالسيف. وهذا هو العنوان الفعلي للتفاوض!
إن الفلسطيني ـ كعنوان لأي عربي ـ يعيش حياته بالأمر ويموت بالأمر!
ملكية الأرض بالأمر. حقك في بيتك الذي بنيته حجراً حجراً في الأرض التي ورثتها عن أجدادك يقرره الأمر الإسرائيلي. ان تمردت أخرجت منه بالشرطة، أسيراً، أو برصاصها شهيداً. الدخول الى مدينتك أو قريتك بالأمر. ان تسللت الى دار أهلك بغير ترخيص حوكمت بتهمة الدخول خلسة، وقد يصرعك الشرطي بوصفك متسللاً.
الصلاة بالأمر. لست حراً في أن تذهب الى المسجد الأقصى ساعة تشاء.
تذهب إذا ما استوفيت شروط الإيمان: كأن تكون قد بلغت من العمر خمسين سنة. أن تكون أعزل. أن تكون وحيداً. أن يكون دعاؤك مسالماً.
أنت في «الداخل» من فلسطين: إسرائيلي بالأمر!
أنت في «الضفة» فلسطيني مع وقف التنفيذ.. بالأمر!
أنت في «غزة» من العصاة والخارجين على القانون، ولكي تعود «فلسطينياً» عليك أن تسلم بالسلطة بالأمر!
أنت خارج فلسطين لاجئ بلا هوية، بالأمر!
في الأردن لست أردنياً، بالأمر. ولست فلسطينياً تماماً. إن كنت فلسطينياً فعليك أن تعود، لكنك ممنوع، بالأمر، أن تعود، وممنوع، بالأمر، أن تكون أردنياً. إذاً أنت غير موجود.
أما في لبنان فتلك هي ذروة المأساة: لست لبنانياً، بالتأكيد، ولست فلسطينياً تماماً، لان ذلك يرتب لك حقوقاً. ولست لاجئاً بهوية سياسية. ولست مجهول النسب والأصل. فلسطينيتك مصدر خطر. قد تغريك نفسك الأمارة بالسوء بأن تستوطن. والتوطين يخلخل التوازن الهش في الوطن الصغير الباحث، عبثاً، عن وحدته الوطنية. وأنت «مسلم». إنسَ أنك فلسطيني! أنت مجرد مسلم إضافي يائس من وطنه، مرفوض في العالم. إذاً أنت ستكسر مستلزمات الوحدة الوطنية. عليك أن تخرج. لا تسألني: الى أين! اعرف أن طريقك الى فلسطين مقفلة، لكن البحر مفتوح، والجو فضاء بلا مدى. فاختر وطناً بديلاً من يأسك!
[[[[[[
باسم من ستفاوض السلطة؟!
في الجواب تكمن الفضيحة!
ليس باسم «فلسطينيي الخارج» بالتأكيد. فليس فلسطينيو الأردن وسوريا ولبنان والعراق والخليج، والشتات، أي العشرة ملايين فلسطيني، ممثلين في الوفد المفاوض، أو في جدول أعمال المتفاوضين.
وليس باسم «فلسطينيي الداخل»، أي المليون ونصف مليون فلسطيني ممن غدوا، بالأمر، «إسرائيليي الهوية»، وان كانوا لا يتمتعون بكامل حقوق «المواطن الإسرائيلي»، بل هم نقيضه والشاهد على «غربته» عن الأرض.
وليس باسم «فلسطينيي غزة» أي المليون ونصف مليون ممن استبعدوا بالأمر، ونبذوا، وكادت تنكر عليهم هويتهم الوطنية بسبب الخلاف على «السلطة» الذي انتهى بشقاق وطني خطير، وليس باسم مجموع أهالي الضفة، المخضعين للسلطة بالقوة أو الخاضعين لها اضطراراً، وبحكم ضرورات العيش.
ليس باسم منظمة التحرير التي غدت مجرد عنوان مفرغ من المضمون، لا هي منظمة جامعة ـ ومعظم الفصائل خارج مؤسساتها الرسمية التي تهاوت فاندثرت ـ ولا بقي لها من رمزية الاسم شيء من القداسة فضلاً عن قوة الفعل، بوصفها الحاضنة الوطنية لمجموع الفصائل، وبينها «الصندوق القومي» مصدر التمويل لكل جهد من أجل التحرير، أيام كانت المنظمة بداية الطريق للعودة الى فلسطين.
لقد استهلك فعل التفاوض العبثي «السلطة»، في غياب عناصر القوة المعززة للمفاوض الفلسطيني وأولها وأخطرها الإجماع الوطني، ثم الدعم العربي (الرسمي فضلاً عن الشعبي) وبعد ذلك الحماية الدولية.
نتنياهو ـ ومن قبله أولمرت وشارون وباراك وبيغن ـ هو إسرائيل، حتى لو كانت تعارضه بعض القوى والأحزاب السياسية الإسرائيلية.
أما عباس، ومن معه من الموظفين، فليس فلسطين. لا هو يمثل كل فلسطين، ولا يمكنه ادعاء مثل هذه الصفة، بل ولا هو يمثل أكثرية الفلسطينيين، سواء داخل أرضهم أو في ديار الشتات.
ونتنياهو ـ ومن قبله رؤساء الحكومات في إسرائيل ـ يحظون بدعم دولي هائل، تتصدره الإدارة الأميركية ويسير في ركابه الاتحاد الأوروبي، ولا تعارضه «الدول الصديقة»، تاريخياً، كروسيا ودول عدم الانحياز فضلاً عن الصين، ويمالئه أهل النظام العربي، فلا يكاد يخرج من قصر أولهم حتى يستقبله الثاني ويكاد يدعوه الى إفطار رمضاني شهي!
فكيف يمكن أن تؤدي الجولة الجديدة إلا الى هزيمة سياسية جديدة؟
إن كل جولة من جولات التفاوض في ظل انعدام الحد الأدنى من شروط التكافؤ، أو التوازن، إنما تنتهي بمزيد من التنازلات.
وجولة بعد جولة تكسب إسرائيل بالتفاوض ما يغنيها عن شن حروب جديدة لإلغاء الشعب الفلسطيني وحقوقه في أرضه.
إنها عملية تثبيت الهزيمة بالتفاوض.. بل لعلها استكمال للحرب الإسرائيلية بوسائل سياسية تنهي ما كان حقوقاً لشعب فلسطين في أرضه.
أما أهل النظام العربي فيفترضون أنهم سيتخلصون من الفلسطيني وعبء قضيته المقدسة، وستجيء لحظة السلام الموعود مع الحليف الإسرائيلي الجديد في معارك الغد الأميركي الأفضل.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية