يتصرف قادة الإسلام السياسي، و«الإخوان» تحديداً، وكأنهم يخوضون معركة حياة أو موت في مواجهة القوى الوطنية والتقدمية التي تنضوي، بوعي أو بالسليقة، تحت راية العروبة، بوصفها الهوية الجامعة لشعوب هذه المنطقة، وهي مسلمة بأكثريتها الساحقة.
أما الإسلام فليس في خطر… ولقد سبق أن تعرض الدين الحنيف لأهوال واجتياحات عبر الانشقاقات داخله، نتيجة للصراع على السلطة، كما عبر المواجهات مع الدول والقوى الأجنبية، من المغول إلى الصليبيين، وكذلك جرت محاولات لإخراجه من هويته الأصلية سواء بعروبة كتابه ولسانه، أو بالحكم بشعاره من دون مضمونه، ففشلت جميعاً.
أما الإسلام السياسي، كأحزاب وتنظيمات إخوانية وأصولية وسلفية، فيقاتل من اجل السلطة وليس من اجل الدين، فإذا ما ربح كان الربح لقياداته وكوادره، ثروة ووجاهة ونفوذاً، نتيجة علاقاته مع «دول الخارج» متغاضياً عن حقيقة أنها «دول كفار»، تربط اعترافها به بمدى خروجه على شعاراته الأصلية، وبينها تفسيره الفعلي لموقع الدين من السلطة.
بالمقابل، فإن العروبة دعوة إلى توكيد الهوية الحقيقية لشعوب هذه المنطقة بالذات، في صراعها من اجل استقلالها وسيادتها على أرضها وحماية مصالحها… وهي في كل ذلك، لا تفرط بالدين، مدركة أن الإسلام هو دين الأكثرية الساحقة، متبعة تعاليمه التي تحض على تلاقي أبناء الأمة على ما هو الخير لجميعهم، من دون تفريق بينهم على أساس الدين أو المذهب، مقفلة بذلك باب التدخل الأجنبي بذريعة حماية الأقليات.
بل إن العروبة قد حمت أبناء هذه الأرض مشرقاً ومغرباً، من خطر التتريك حين حاولت الإمبراطورية العثمانية، وتحت شعار الخلافة، سلب هذه المنطقة وأهلها هويتهم الأصلية وجعلهم من رعايا السلطان، وليسوا أهل هذه الأرض وبُناتها وحماتها ممن حاولوا تهجينها بطمس هويتها.
ليس الإسلام في خطر، وليس المسلمون مهددين في دينهم، إلا من واحد من مصدرين:
أولهما التطرف في التعصب بذريعة الخوف على الدين، مما يسيء إلى حصانة الإسلام الذي ذهبت الإمبراطوريات والدول التي حكمت باسمه، ولكن عديد المؤمنين به في تزايد مستمر، حتى لقد ناهز المليار وثلاثمئة مليون إنسان في مشارق الأرض ومغاربها.
والثاني استغلال الدين للوصول إلى السلطة… فإن نجحت الحركات ذات الشعار الإسلامي في الهيمنة على الحكم اعتبرت ذلك انتصاراً للإسلام، في حين انه انتصار لحزب أو تنظيم، هدفه السلطة وغالباً ما يتم على حساب الجوهر في الدين الحنيف، بل وغالباً ما يذهب الدين ضحية للسلطة الجديدة التي ترى في ذاتها أنها الدين، ومن خرج عليها ولو منبهاً فهو «الكافر» حتى ولو كان من أئمة العارفين بجوهر الدين.
أما العروبة، وهي هي الوطنية، فهوية لأهلها، مسلمين أساساً، من مختلف المذاهب، ومسيحيين بطوائفهم، ويهوداً لم تجرفهم الصهيونية إلى معاداة العرب، بشخص الفلسطينيين وقضيتهم المقدسة، وهي مقدسة لارتباطها بالأرض التي تمنح الهوية، ولأن الانتصار فيها انتصار على أعداء أهل الأرض والحق التاريخي فيها، وأعداء المستقبل الأفضل لشعوب هذه المنطقة، بغالبيتهم «الإسلامية» الساحقة.
ولقد شكلت العروبة رافعة سياسية لأبناء هذه الأرض الممتدة ما بين المحيط والخليج… في حين خرج «الإسلام السياسي» مبكراً من ساحة المواجهة مع المشروع الصهيوني، وهو عنوان الهيمنة الامبريالية (الغربية) على المنطقة.
هل من الضروري إيراد الأمثلة عن موقف أنظمة عريقة قائمة في الأرض العربية وترفع الشعار الإسلامي كتبرير لهيمنتها على الحكم، من قضية فلسطين، أو في أي جهد للتحرر والتحرير، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في طول الوطن العربي وعرضه؟
إن الإسلام السلفي يحكم بعض أغنى الأرض العربية، منذ عقود… وملوكه والأمراء والمشايخ يزينون رؤوسهم بالكوفية والعقال، ويحتل الشعار الإسلامي راياتهم المذهبة، لكنهم «هربوا» من العروبة إلى «الإسلام الملكي»، ومن الإسلام المستنير الجامع والمحرض على الحرية والتقدم إلى السلفية، وهربوا من الواجب القومي (والديني) في فلسطين إلى مهادنة إسرائيل، وبعضهم إلى الصلح معها بشروطها…
ومن أسف أن بعض الثروة الأسطورية لدول الإسلام السلفي هذه في الجزيرة والخليج تذهب إلى الغرب (الأميركي أساساً)، ثمناً لأسلحة لن تستخدم، وإذا ما استخدمت فليس لنصرة الإسلام بل لمقاتلة العروبة ومعها التقدم والتحرر… وكل هذا يخدم إسرائيل ويمكن للهيمنة الأجنبية (الأميركية) على المنطقة برمتها، ومن ضمنها فلسطين التي «صادرها» المشروع الإسرائيلي.
وكثيراً ما تجري المقارنة أو المفاضلة بين الإسلام السياسي بنمطيه المتعارضين في كل من تركيا وإيران. وبعيداً عن التقصد في تحوير الموضوع ليصير مواجهة بين النموذجين السني والشيعي، فإن جوهر المسألة يتصل بمدى اقتراب أو ابتعاد هذا الإسلام عن الالتحاق بالمشروع الغربي أو استقلاله عنه إلى حد المواجهة، مع التأكيد على موقع إسرائيل في كل من المشروعين.
وليس سراً أن الانبهار بالنموذج التركي للإسلام السياسي يستبطن الالتحاق بالمشروع الأميركي للمنطقة… فتركيا ترتبط بعلاقات صداقة، تقارب التحالف مع إسرائيل، ثم أنها عضو في الحلف الأطلسي، كما أنها قاعدة عسكرية أميركية ممتازة التجهيز، لكن إسلامها برغم كل ما يحكى عن تلطيفه وتمدينه وتحديثه ليوائم الغرب ولا يستفزه، فإنه ما يزال حتى الساعة يحول بينها وبين قبول أوروبا بضمها إلى الاتحاد الأوروبي.
كذلك ليست مبالغة القول إن الالتحاق «العربي» بالنموذج التركي للإسلام السياسي يتجاوز الخروج من العروبة إلى التيه، فيتبدى جلياً أنه التحاق بالغرب وهيمنته، وإن استمر رجال السلطة في أنقره يفرضون «الحجاب» على نسائهم.
وإنها لمفارقة أن يلتحق العربي، الذي يفاخر بأن أرضه هي مهبط الوحي ومنطلق الدين الحنيف بمنظمات وأحزاب وجماعات إسلامية، ولكنها غير عربية، يعجز جمهورها عن قراءة القرآن الكريم بلغته، ولا تفهم قياداتها المعاني والدلالات المترجمة، ولا يعوض هذا النقص أداء فريضة الحج والطواف حول البيت الحرام والاستماع إلى كتاب الله بلغة لا يدركون مضمونها حتى لو قرأوها.
قبل عقود تلاقى المسلمون بدولهم ذات الهويات المختلفة خلف القيادة العربية وكان مركزها مصر، مسلّمين بشرعيتها، مؤمنين بقدراتها المعززة بالثورة على بناء الغد الأفضل لدول «العالم الثالث» عموماً، وفيه من المسلمين ما يفوق أعداد المسلمين العرب جميعاً… وكان التلاقي على قاعدة سياسية لا دينية، وهذا ما يسر أمر التوحد على الأهداف المتماثلة للشعوب الممهورة بالتخلف والتبعية، والنضال المشترك ضد قوى الاستعمار والامبريالية.
وليس سراً أن بعض أهل النظام العربي، من أتباع السلفية والأصوليات المغلقة ظلوا خارج هذه المنظومة الدولية ذات التوجه التحرري بذريعة أن «الكفرة من الشيوعيين» يسيطرون عليها.
اليوم، لا يظهر في الأفق أي مؤشر على احتمال نجاح التجربة الجديدة للحكم تحت الشعار الإسلامي، سواء منها العريق بتاريخه، السلفي في توجهه، الأميركي في ارتباطاته السياسية، كما في السعودية، أو الحديث في وصوله إلى السلطة والمثقل بتاريخ خيباته وتعثراته والذي لا يملك برنامجاً عصرياً للحكم، كما في مصر، والذي زايد على نظام الطغيان الذي أسقطه «الميدان» في ولائه للإدارة الأميركية والتزامه أهدافها الإستراتيجية وأبرزها تأمين دولة العدو الإسرائيلي الذي زايد في نفاق رئيسها عن سابقه…
أليست مفارقة أن تلتقي كل فرق الإسلام السياسي وتنظيماته السلفية منها والإخوانية والجهادية على قتال العروبة، حيثما تبقى لها بعض الأثر أو التأثير في الحياة السياسية، ثم تتوجه بولائها إلى واشنطن معززة ببطاقة توصية من العدو الإسرائيلي.
ولقد كان الإسلام، كدين، واحداً، وعامل توحيد، بين المسلمين كافة من حول قضاياهم الوطنية والقومية… اما مع التنظيمات مختلفة التوجهات والرايات والارتباطات، فقد أصابه الكثير من الضرر في صورته الأصلية كما في دوره في هداية الخلق إلى الصح في دينهم كما في دنياهم.
وليس من شك في أن الصدام المفتعل والمخطط له بين الإسلام السياسي والعروبة قد أصاب مصالح الأمة بأضرار فادحة.
وواضح أن هذا الصدام سيجد من يدفعه في اتجاه الحرب الأهلية العربية، وهي حرب ستبقى مفتوحة حتى إشعار آخر، خصوصاً أنها ستتخذ من الفتنة الطائفية بل المذهبية سلاحاً في المشرق امتداداً إلى دول أفريقيا العربية.
تنشر بالتزامن مع جريدة « الشروق» المصرية