بينما تعلن إسرائيل نفسها «دولة يهود العالم» وتفرض قرارها هذا على «الدول» جميعاً، في الغرب والشرق، وعلى العرب بوجه الخصوص، يتشظى الحلم بتوحد العرب، أقله في الموقف السياسي، وتتباعد أنظمتهم عبر المخاصمات والمناكفات وعمليات الإيذاء المباشر الى حافة حربٍ، أهلية، أو عربية ـ عربية.
إن معظم الدول العربية مهددة الآن، بالتقسيم أو التشظي، بفعل الفتن المصنوعة محلياً أو المستوردة أو المحركة من الخارج، باستغلال سوء الأوضاع نتيجة تردي الحكم والجفاء بينه وبين شعبه.
بعض هذه الدول العربية يتهددها التقسيم على أساس عرقي وعنصري، كما السودان (وربما موريتانيا، وربما الصومال، وبعض دول المغرب العربي)..
وبعض آخر جاءها خطر التقسيم محمولاً على ظهر دبابات الاحتلال الأميركي، وارث الطغيان المحلي، كما العراق، أو بسبب فشل الحكم الفردي في صيانة الوحدة الوطنية وتعزيزها، كما اليمن وأقطار أخرى..
وبعض ثالث يتنامى فيها خطر الانشقاق الداخلي منذراً بحرب أهلية على قاعدة طائفية أو مذهبية، لأسباب تتصل بعجز النظام والنقص في صلابته الوطنية أو استغنائه بنفسه عن شعبه أو تحكيم فئة متصلة بأهله بالقرابة أو بالمصلحة بمقدرات البلاد بحيث يشعر مواطنه بأنه غريب في وطنه.
ومع أن الفتنة داخل المسلمين، وبالتحديد بين السنة والشيعة، هي استثمار سياسي مباشر لإسرائيل خاصة والغرب عموماً، إلا ان بعض أهل النظام العربي لا يتورعون عن المشاركة في النفخ في نارها ويتابعون بلا مبالاة ظاهرة توسع رقعتها وتفاقم خطرها المدمر.
في المشرق العربي، وانطلاقاً من لبنان الى البحرين وبالعكس، مع محطة مركزية في العراق، يجري العمل على مدار الساعة لتمويه الخلافات السياسية، وأولها الصراع على السلطة، باستعادة صفحات من «الفتنة الكبرى» التي قسمت المسلمين في فجر الإسلام وأضرت بمشروعهم السياسي.
تم «تحييد» الاحتلال، بوجهيه الإسرائيلي والأميركي، للاندفاع الى حروب تستخدم الماضي لتدمير الحاضر وتنذر بدفع البلاد الى مخاطر هدر المستقبل في مهاوي التمزق والاندثار.
الهزيمة ولادة..
الى ما قبل سنوات كان النضال من أجل التحرر والتوحد والتقدم قد أسقط الفواصل الطائفية والمذهبية بين أبناء الشعب الواحد، في مختلف أقطار المشرق، خصوصاً، ووحدهم في مواجهة المستعمر والحاكم الظالم المستقوي على شعبه بالأجنبي، مرتفعاً بهم فوق النزعات الانفصالية على أساس عرقي أو طائفي أو مذهبي..
في لبنان، مثلاً، كان للصراع السياسي الى ما قبل ربع قرن، عنوان الضغط الشعبي على النظام لإسقاط احتكار السلطة بذريعة حماية «الأقلية الطائفية المسيحية» من مخاطر اجتياحها بمطالب الأكثرية الإسلامية، للمشاركة في.. جنة الحكم!
أما اليوم وفي ظل تهالك النظام العربي وتردي أهله واندفاعهم الى طلب الحماية من الأجنبي (ولو كان العدو الإسرائيلي نفسه) فإن الصراع على السلطة يتخذ سياقاً آخر تصور معه الطائفة الشيعية (التي تكاد تخرج من الدين الإسلامي) وكأنها تحاول الاستيلاء على الحكم، وبقوة السلاح، على حساب أهل السنة.
… في حين كان الجميع يرى، الى ما قبل فترة وجيزة، في سلاح المقاومة (التي يتنافى جهادها بطبيعته مع المذهبية والطائفية) قوة للوطن والأمة (والدين بما هو حض على التحرر وحفظ كرامة الإنسان)، فإن النفخ في رماد الفتنة، يسعى لقلب الصورة وتصوير المجاهدين وكأنهم أصحاب مشروع انقلابي يرعاه «الحرس الثوري الإيراني» للقضاء على «السنة» باعتبارهم حملة راية العروبة، كأنما القومية والطائفية أو المذهبية هما وجها عملة واحدة!
والى ما قبل سنوات قليلة، كان الشارع الوطني في لبنان (بغالبيته من المسلمين، سنة وشيعة) هو حامي القضية الفلسطينية بوصفها التجسيد الحي للعروبة، يعصم اللبنانيين عموماً، والمسلمين خصوصاً، سنة وشيعة من مثل هذا الانقسام..
أما في العراق فالأمر أكثر تعقيداً.. فكثير من أهل النظام العربي، الذين حرضوا الأميركيين على احتلال العراق وتدميره، انتبهوا متأخرين الى أن «الشيعة» يشكلون «أكثرية العرب» من شعبه، والكثرة الغالبة من شهداء حروب طاغية بغداد، سواء ضد إيران (الشيعية؟!) بذريعة منعها من تصدير ثورتها الإسلامية، أو في اجتياحه الكويت، أو في عمليات الانتقام المريع من أهالي الجنوب والوسط ومعظم بغداد التي أعقبت الحربين اللتين لا يبررهما إلا غرور الحاكم الفرد وقد وجد من يشجعه على المغامرة الأولى بتحريض مذهبي، والثانية بالاستكبار وروح الثأر، الى حد الانتحار.
بل ان بعض أهل النظام العربي لم يتورعوا عن احتضان تنظيم «القاعدة»، ولو بشكل غير مباشر، بوصفه تنظيماً سنياً يعادي الشيعة ويكفرهم علناً، ودفعه الى ضرب الشيعة بالاغتيالات الجماعية والهجوم على مواكب احتفالاتهم الدينية بالسيارات المفخخة ومجازرها المروعة.
تناسى الكل واقع الاحتلال الأميركي وانصرفوا عن مواجهة جنوده كخطوة أولى على طريق تحرير العراق تمهيداً لطرده منه، تحت راية العروبة والاستقلال (والإسلام) وانقسموا عند عتبة السلطة يتنافسون في إعلان الولاء للمحتل، ليحظوا بمواقع حاكمة في ظل الحاكم العسكري الأميركي (ولو بثياب مدنية).
وها هم يعجزون عن تشكيل حكومة، لان أهل النظام العربي قد مدوا منافساتهم ومناكفاتهم واجتهادهم في خدمة الاحتلال الى داخل أرض الرافدين فقسموا العراقيين الى حد استحالة التفاهم على حكومة وحدة وطنية تلبي الأغراض المناقضة لمستثمري الانقسام الطائفي على حساب العراق الذي كان بين الأقوى من الدول العربية.
أما في الكويت فينفخ في نار الفتنة بسبب تخريفات أطلقها بعض المشبوهين في لندن، واعتبرت هجمة شيعية على السنة تستهدف وحدة الدولة التي لا تزال تعاني من آثار غزوة صدام..
وتبقى ملاحظة على الهامش:
لقد تجشم رئيس أكبر دولة عربية (التي تسامت فوق الطوائف والمذاهب والنزعات الدينية) وملك العرش البديل من فلسطين (الأردن) عناء السفر الى واشنطن، والوقوف خلف رئيس حكومة يهود العالم، بنيامين نتنياهو، وأمام الرئيس الأميركي الأسمر باراك أوباما، كشهود زور على صفقة تخلي «سلطته» ذات الرعاية الاستثنائية عن حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه… من غير أن يتنبها الى أن هذا التنازل الخطير يصيب بالضرر الماحق شعب فلسطين كله (أكثر من عشرة ملايين غالبيتهم الساحقة من أهل السنة، والأقلية الباقية من المسيحيين وليس بينهم شيعي واحد!).
ثم عاد الجميع الى بلادهم وقد ازدادوا عزماً وإصرارا على القضاء على «الخطر الشيعي»، علماً بأن ليس في مصر أو الأردن أو فلسطين أي وجود فعلي للشيعة… وعلماً بأن إسرائيل هي التي توطد بناء دولتها الدينية والعنصرية فوق «أرضهم» العربية ـ الإسلامية بعاصمتها القدس (التي فتحها عمر وحررها صلاح الدين) كما تقول بعض الشعارات المرفوعة عهداً للقدس باستعادتها وإعادة أهلها المتناثرين في أربع رياح الأرض اليها..
وبعد العودة كان على النظام في مصر أن يواجه تحركاً ينذر بمقدمات عصيان من طرف تيارات قبطية، تجد من يحرضها ويساندها ويدعم مقولتها بأن مصر دولة لدينين (وشعبين) أحدهما أصيل فيها، مغبون ومضطهد، والثاني وافد أخذها بالسيف وما زال يتحكم فيها ويحرم «شعبها الأصلي» من «حقوقه في بلاده».
في هذه الأثناء كان إنشاء المستوطنات يتواصل… ومنذ بداية «عملية السلام» في اوسلو (1993) وحتى تاريخه تضاعف عدد المستوطنين الإسرائيليين (الذين يعيشون في الضفة الغربية) ثلاث مرات ليرتفع من مئة وعشرة آلاف الى أكثر من ثلاثمئة ألف في 121 مستوطنة ومئة بؤرة استيطانية أمامية.. إضافة الى أكثر من مئتي ألف مستوطن آخر يحاصرون القدس الشرقية.
وهكذا ينتصر الدين الحنيف على أهل الكفر والشرك، الذين لا بد هالكون بعون الله وإذنه.
والحمد الله من قبل ومن بعد، على نعمه الكثيرة.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية