فجأة، وبغير مقدمات، وبعد دهور من اليأس، هبت رياح الانتفاضة على مجتمعات عربية راكدة تعيش خارج السياسة وقد استهلك «النظام» الراسخ فيها، والمصفح بنجاحه في استئصال البديل المحتمل، قواها الحية جميعاً، من أحزاب وتنظيمات وهيئات وجمعيات أهلية.
ولقد سقط هذا «النظام» الذي كان يتبدّى جباراً بأسرع من التوقع، ثم توالى سقوط نماذجه القائمة في العديد من الدول العربية كقصور من كرتون، وقبل أن تتمكن الانتفاضة من صياغة برنامجها السياسي وتجميع قواها المشتتة والتي لا ينتظمها حزب أو جبهة.
على أن هذا «النظام» الذي تهاوى بأسرع من المتوقع لم يكن يتمثل في شخص رأسه وحده، بل كانت له مقومات وجوده وأسباب قوته، بمعزل عن واقع انه فردي وظالم ويستقوي بتفرده في السلطة وسيطرته على أدواتها: القوة العسكرية والتحالف مع أرباب المال والنفوذ الذين غالباً ما كانوا يشكلون وكلاء أو شركاء في المصلحة للأجنبي.
تفجرت الانتفاضة، إذن، في غياب وحدة المجتمع مجسدة في قوى سياسية حية، مؤهلة للتلاقي على برنامج للتغيير والبناء بعد إسقاط عهد الطغيان.
ولأنها تفجرت في غياب وحدة المجتمع، فقد كانت مهددة ـ وما تزال ـ بان تتحول إلى أسباب للشقاق والمواجهات بين نظام قديم يرفض الاستسلام حتى لو فقد رأسه، وبين «نظام جديد» يكاد يكون بلا رأس موحدة.
وهكذا يتبدى المشهد في العالم العربي سوريالياً: فالماضي لما يسقط تماماً، وإن كان فقد أمله في أن يعود إلى موقع القرار، لكن المستقبل لا يجد رجاله، والحاضر يكاد يسقط في فراغ الصراع على سلطة تبحث عن رأسها، وهو يجرجر أثقال الماضي…
لا مصر، الآن، هي مصر التي كانت، ولا صورة مستقبلها واضحة وقوى هذا المستقبل محددة، ثم أنها لم تعد مركز القرار العربي، ولا هي قاعدة الثورة العربية الجديدة، منطلقها ومصدر تزخيمها، ولا هي ـ بالتأكيد ـ مركز الثورة المضادة.
لقد افقدها الطغيان موقعها كقيادة للأمة، من دون أن يمكنها من احتلال مركز القيادة في موقع الضد. لا هي انتصرت على إسرائيل بحيث تتقدم عليها في واشنطن، ولا أخرجها عجزها عن الانتصار من حقيقة أنها مرجعية عربية لا يمكن تجاهلها، وإن غفل نظام الطغيان فيها عن إعادة صياغة دور فاعل.
لم تعد قيادة الوطن العربي وحاملة راية المواجهة مع الاستعمار قديمه والجديد وضمنه العدو الإسرائيلي… ولا هي استطاعت أن تبقى النموذج والقدوة في أفريقيا وآسيا وعالم عدم الانحياز. وتقتضي الأمانة الاعتراف بأن مغامرة الرئيس الأسبق أنور السادات في زيارة الكيان الإسرائيلي تمهيداً للصلح المنفرد معه قد أخرجت مصر من موقعها القيادي عربياً. ولعل بين المشكلات الجدية لانتفاضتها أنها لا يمكن أن تسلم بهذا الخروج أو الإخراج القسري، وإن تعذر عليها ـ حتى إشعار آخر ـ لعب هذا الدور الذي لا بديل منها فيه. فحكم الطغيان كان أضعف وأعجز من أن يشكل قيادة عربية.
ومن باب استعادة الماضي لتثبيت نتائج معينة يمكن الاستشهاد بالمحاولات التي بذلتها أنظمة طغيان «شقيقة» لنظام الطغيان في القاهرة من اجل مصادرة دوره والتصدي لقيادة الأمة، والى أين أفضت تلك المحاولات.
لقد سقط صدام حسين في فخ غروره وهو يخرج شاهراً سيفه على جيرانه جميعاً: شن حرباً غير مبررة على إيران غداة ثورتها الإسلامية التي أسقطت حكم الطغيان ممثلا بالشاه، دامت ثماني سنوات، مقدماً للعرب نموذجاً كاريكاتورياً مفجعاً عن «حرب القادسية»، ولو كانت أوضاع مصر سليمة وأهليتها للقيادة مؤكدة، لما تمكن صدام حسين من القيام بمغامرته الكارثية تلك.
كذلك فلو كانت أوضاع مصر سليمة وقيادتها مؤهلة لدورها القومي الجامع لما تجرأ صدام حسين على «غزو» الكويت.
وهكذا خسر العرب العراق بعدما كانوا قد خسروا مصر وموقعها القيادي الذي حمى الكويت الوليد استقلالها في العام 1962 من مغامرة كان يمكن أن يرتكبها سلف صدام: الزعيم عبد الكريم قاسم.
كذلك فقد استطاع معمر القذافي، في ظل غياب مصر عن دورها، أن يرتكب سلسلة من الأخطاء السياسية القاتلة، سواء في دنيا العرب أو في القارة الأفريقية… فلا هو عوّض مصر ولا هو أفاد ليبيا، بل كانت النتيجة أن سادت أجواء مستجدة ومصطنعة من العداء بين العديد من دول أفريقيا والعرب… من دون أن ننسى الأضرار التي أصابت مصر نفسها نتيجة مغامرات القذافي سعياً إلى تنصيب نفسه زعيماً عليها مستغلا تهافت نظامها وإفلاسه مقابل غنى ليبيا بثروتها النفطية وقدرته على توظيف هذه الثروة في تحقيق مطامحه السياسية التي لا سند لها شعبياً لا في القاهرة ولا في طرابلس ذاتها.
ذلك من الماضي، فلنعد إلى الحاضر وبعض وقائعه الموجعة:
بين هذه الوقائع أن ثلاثة من الحكام العرب قيد المحاكمة الآن، اثنان منهم حضورياً في مصر، والثالث غيابياً في تونس، في حين أن حاكماً رابعاً قد قضى نحبه بطريقة مشينة تسيء إلى شعب ليبيا أكثر مما تسيء إلى معمر القذافي الذي كان يمكن اقتياده إلى محاكمة عادلة يشهد عليها العالم كله.
وبينها أن الحرب في سوريا وعليها تفتقد مرجعية عربية مؤهلة لأن تتصدى لوقفها… فيصير الأمر للدول، والدول أغراض ومصالح، وتصير جنيف بديلاً من القاهرة.
لقد تغير العالم، ودار التاريخ بدوله دورة كاملة: فالروس ليسوا هم السوفيات الذين كانوا… وعلى أهمية استقبال القاهرة للوزيرين الروسيين قبل أيام، ولنتائجها العملية، فلا بد من التنبيه إلى أن الاتحاد السوفياتي بات ماضياً لن يعود.
كذلك فإن دول عدم الانحياز لم تعد معسكراً ثالثاً له حق المشاركة في القرار الدولي من موقع متميز: صداقة من دون التحاق، وتعاون من دون تبعية.
أما الجامعة العربية فتنتظر من يلقي عليها تحية الوداع وقد غدت مؤسسة متهالكة من الماضي.
ولقد سقطت الجامعة العربية بالضربة القاضية في سوريا الغارقة بدمائها… فلا هي استطاعت أن توقف الحرب في سوريا وعليها، ولا هي اعترفت بعجزها والتجأت إليه، بل إنها تحولت إلى أداة في خدمة «الدول»، وكادت تكرر خطيئتها في ليبيا حين أعطت ما يشبه التفويض لحلف الأطلسي كي يحقق … «إرادة الشعب الليبي»!
كل العرب في انتظار أن تعود مصر إلى ذاتها والى دورها الذي لا بديل لها فيه.
ولكن بعض هؤلاء العرب يحاولون أن يشتروا ثورة مصر بثرواتهم، مستغلين أوضاعها الاقتصادية الصعبة التي تسبب فيها الطغيان، والبعض الآخر من العرب يخاف من عودة مصر إلى دورها القيادي فيحرض عليها الغرب.. وثمة بعض ثالث يتهم «العهد الجديد» بأنه «ديكتاتورية عسكرية» ليطعن في أهليته.
والكل يتابع بالقلب قبل العين، وبالتمني والثقة بقدرة الشعب المصري تطور الوضع في مصر، آملاً ألا تخطئ قيادتها الطريق إلى المستقبل.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية