ضجت العواصم العربية بأخبار أزمة الوجود التي تعيشها الصحافة في لبنان، التي وإن اتخذت من «السفير» عنواناً لها، إلا أنها لا تستثني سائر الصحف الخاصة، أي غير الحكومية، التي تعاني مخاطر الاختناق في ظل تراجع الدخل الإعلاني وانخفاض التوزيع لأسباب متعددة، يختلط فيها «السياسي» بـ «التجاري»، مع المنافسة غير المتكافئة مع وسائل التواصل الاجتماعي.
ولقد ربط كثيرون بين رحيل صحافي القرن محمد حسنين هيكل وبين شحوب دور الصحافة العربية، ربما لمكانته الاستثنائية كأستاذ كبير لعب دور المجدد والمحدث في المؤسسات الإعلامية، كما في أساليب الكتابة واستدراج كبار الأدباء والمثقفين إلى أفيائها.
ثمة إجماع على أن الصحافة اللبنانية، بدءاً من الستينيات من القرن الماضي، قد تقدمت ـ مهنياً وسياسياً ـ لتتصدر صحافة العرب، مع تميز عن الصحافة المصرية بأنها ليست مملوكة من الدولة أو عبر «الاتحاد الاشتراكي» أو من ورثه من المؤسسات الحكومية في مصر.
وفي حين تّم تأميم الصحافة في كل من مصر وسوريا والعراق وليبيا، لتتحول جميعاً إلى جهاز إعلامي حكومي، ظلت الصحف في لبنان مؤسسات خاصة، وإن تحول بعضها إلى شركات خاصة. أما في السعودية وسائر أقطار الخليج، فالصحف حكومية التوجه والالتزام، كائنا من كان المالك.
في أي حال، فإن النذر توحي بأن الصحف في لبنان على وشك مغادرة الساحة، لا سيما وقد انقلب الصراع السياسي بين الأنظمة العربية إلى حروب بالسلاح، وكان لتلك الأنظمة أو الأهم منها مساهمات في «دعم» مؤسسات صحافية معينة لتواجه مؤسسات أخرى تساعدها أنظمة مخاصمة: في البداية، الهاشميون في العراق في مواجهة السعودية، ثم الطرفان معاً في مواجهة النظام الناصري، قبل أن تنضم إلى الحلبة بعض إمارات الخليج التي تدفق فيها النفط والغاز متأخراً عن المملكة المذهبة.
وقد أنشأ الصراع بين الأنظمة العربية (وهو دائم، ولله الحمد..) عدداً من الصحف في بيروت، كما دعم وعزز قدرات صحف أخرى، خصوصاً أن مساحة «الحرية» التي يتيحها النظام اللبناني مكنت بيروت من أن تتحول إلى ساحة صراع سياسي ـ إعلامي بين الأنظمة المتصارعة، فضلاً عن كونها ساحة صراع مفتوح في الداخل بين القوى السياسية المحلية على اختلاف توجهاتها وارتباطاتها… لا سيما أن لها صلات وارتباطات مع بعض الأنظمة العربية، تغذيها بالاشتراكات «التشجيعية» والإعلانات، وتساعدها على إصدار أعداد خاصة (إعلانية)، وكل هذا دعم سياسي في الأصل.
أما وقد غادر الصراع بين الأنظمة العربية المجالس السياسية متحولاً إلى الحروب المباشرة، أو رعاية هذا النظام أو ذاك لمؤسسات صحافية محددة لكي تخوض معه وإلى جانبه، وأحياناً بالنيابة عنه معاركه ضد الآخرين، فقد تناقص دعم «إعلام الخارج»، في حين وجهت مبالغ خرافية لدعم قوى معارِضة لهذا النظام أو ذلك بالسلاح… أليس «السيف أصدق إنباء من الكلام»؟
يمكن هنا الإشارة، ومن باب التذكير بالمنسي من الوقائع، أن العديد من الصحف اللبنانية قد «هاجر» أو «طُلبت منه الهجرة» ـ أو ربما فرضت عليه أو زينت له فرص النجاح والتأثير والإفادة من هذا التغرب لاستكمال «معارك» كانت مفتوحة، أو سوف تفتح لاحقاً بين هذا النظام وذاك، انطلاقاً من تصادم المواقف حول القضية الفلسطينية ومشاريع الصلح مع العدو الإسرائيلي، أو في خضم الصراع ـ هجوماً ودفاعاً ـ بين الأنظمة العربية ذاتها. على سبيل المثال: «الحرب» بين البعثين العراقي والسوري، والحرب التي شنها صدام حسين على إيران ـ الثورة الخمينية والتي استكملها بغزو الكويت، فضلاً عن «الحروب» التي شنها معمر القذافي على هذا أو ذاك من الأنظمة العربية، لا سيما السعودية وبعض إمارات الخليج …الخ.
بديهي أن الدول الغنية (النفطية) هي التي كانت وراء هذه الهجرة المنظمة لبعض الصحف والمجلات التي كانت تصدر في بيروت، وانتقلت بأسمائها ذاتها التي لها موقعها في تاريخ الصحافة العربية عموماً، وليس اللبنانية فحسب، إلى الغرب، وقد انتقل أو نُقل مع هذه الصحف العديد من الصحافيين المعروفين والكتاب ذوي الرصيد الفكري والأدبي (بالموقع أو بالموقف)… وشهدت باريس بداية ثم لندن «انبثاق» صحافة عربية تدعمها قدرات ممتازة، على العكس من أوضاع الصحف المهاجرة بعيد الحرب العالمية الأولى إلى باريس. وعلى العكس من أهداف «الصحافيين الشوام» الذين هاجروا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر إلى القاهرة، ولعبوا دوراً تأسيسياً مميزاً في تاريخ الصحافة المصرية («الأهرام»، «المقتطف»، «دار الهلال»، والعديد من المطبوعات الأخرى)… وهم قد تمصَّروا وعاشوا أعمارهم بين الإسكندرية والقاهرة، قبل أن يسلموا الراية لأجيال من الصحافيين المصريين المميزين، ومن بينهم ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ الأستاذ الجليل الذي غادرنا مؤخراً: محمد حسنين هيكل.
&&&
بالانتقال إلى الوضع الراهن، يمكن تسجيل بعض الملاحظات المهمة قبل الدخول في التفاصيل:
أولاً ـ لقد اندثر الصراع السياسي بالمبادئ والأفكار، والمصالح القومية والوطنية، بين الأنظمة القائمة حالياً في معظم أرجاء الوطن العربي، بل يمكن القول، من دون خشية من الانزلاق إلى الأحكام المطلقة، إن «السياسة» في الوطن العربي قد اندثرت أو تكاد تندثر.
لقد اختفت الأحزاب وسائر أشكال التنظيم السياسي في المشرق كما في المغرب، ولحقت بها النقابات والاتحادات المهنية، بدءاً بالعمال وانتهاء بالمنظمات الطلابية.
نعني على وجه الخصوص: سوريا والعراق، ومعهما أو قبلهما مصر والجزائر وتونس، وصولاً إلى لبنان الذي كان «الشارع» فيه يعبر ـ مباشرة أو بالواسطة ـ عن الحراك الشعبي العربي بتنظيماته وأحزابه السياسية، لا سيما منها حاملة الشعارات القومية: «البعث» و«حركة القوميين العرب» والأحزاب الشيوعية، فضلاً عن التنظيمات الفلسطينية.
وإذا كانت الانتفاضات الشعبية التي أسقطت عليها تسمية «الربيع العربي» قد ملأت الميادين بالهتاف للثورة كطريق اجباري للتغيير وإخراج الشارع العربي من حال الموات التي فرضتها عليه الأنظمة القمعية واستطالت دهراً، فان هذه الانتفاضات الرائعة كانت بلا «رأس» وبلا «حزب» أو «تنظيم» قائد، بل بلا قيادة من أي نوع، وإن هي جمعت ملايين الغاضبين والممتلئين بالعزم والإرادة على التغيير. وهكذا أمكن لـ «النظام العربي» أن يواجهها، وأن يخادعها ويتحايل عليها بأساليبه الماكرة وقواه الظاهرة والمخبوءة، وتكاتف مختلف الأنظمة الحاكمة (جمهورية وملكية وبين بين) على تشتيت الجموع الغاضبة، ومخادعتها بأنماط من التغيير التي تبدل في الواجهة، وحتى في الرأس، ولكنها تحاول «تجديد» النظام من داخله، بما يديمه، وإن تغير الأشخاص على القمة، واستحدثت شعارات جديدة تخادع جماهير الثورة وتحاول تضليلها بالادعاء أن التغيير قد تم… وآن للجماهير أن تغادر الميادين.
وبين أسباب هذه «النكسة» أن الأنظمة النفطية، قد بادرت إلى هجوم دفاعي تمثل في دعم الأنظمة الجديدة المستولَدة قيصرياً، كبديل عن التغيير الفعلي المطموح إليه… هكذا أغدقت المساعدات والقروض بالمليارات، وهي دائماً مشروطة، على الأنظمة المستولَدة قيصرياً، بإفشال عملية التغيير المطموح إليه، فأنعشتها، مؤقتاً، وبما يمكنها من مخادعة الحراك الشعبي وإشغاله بوهج الذهب الذي سيتدفق عليه كنجدة من الإخوة الأثرياء. في حين أن واقعه لم يتغير فعلاً، بل إن هذه الهبات والمساعدات التي تبين أنها قروض واجبة السداد، ولو بعد حين، تساعد النظام على البقاء وتمكنه من مخادعة الميادين حتى مغادرة آخر الثوار، أو «اختطافه» منها.
«أمر اليوم» الذي تحاول تنفيذه الأنظمة المذهبة: التغيير ممنوع! حتى لو أدى تنفيذ هذا الأمر إلى إغراق البلاد العربية، التي انتفضت جماهيرها منذرة بالثورة، في مستنقع من الحروب الأهلية، غالباً بشعار طائفي أو بمطالب مذهبية أو حتى عرقية.
ولتنفيذ هذا الأمر بنجاح،، لا بد من تغييب بيروت، بميادينها وحيوية شعبها الذي عاش أنماطا من حرية الرأي والحركة قد لا تكون مثالية ولكنها «معدية»، والأهم: بأجهزة الإعلام فيها ، مكتوباً ومرئياً.
هكذا تغرق أقطار عربية بدماء أهلها، وتغرق عموم المنطقة العربية بالصمت، فتغيب الأصوات التي تعبر عن شوق الإنسان العربي إلى الحرية والتقدم والكفاية والعدل.
وقد لا تكون الصحافة اللبنانية مؤهلة للعب دور حامي الثورات، ولكنها كانت، بفوضاها وتعدد منابرها، تعبر عن مطلب بل عن حق المعرفة بما يجري في حاضرنا وما يدبر لمستقبلنا.
لهذا تعيش الصحافة في لبنان في خضم معركة الدفاع عن الوجود، باعتبارها الشاهد العربي الأخير على ما يدبر لهذه الأمة المجيدة.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية