في منتصف العام 2006 اتيح لي أن التقي الرئيس السوري الدكتور بشار الاسد، في مكتبه في القصر الجمهوري المطل على دمشق، الذي لم يكن والده الراحل حافظ الاسد لا يستخدمه الا في اللقاءات مع مسؤولين اجانب كبار، مفضلاً عليه مكتبه المتواضع في تلك البناية السكنية في بعض جنبات حي الروضة، داخل دمشق.
بادرني الرئيس بشار الاسد، بعد التحية والسلام، بالقول: هذه المقابلة لي وليست لك، انا من يسأل، لو سمحت، وانت تجيب..
قلت متهيباً: هذا شرف عظيم، سيادة الرئيس..
قال: السؤال الأول.. ما رأيك برستم غزالي؟
(كان غازي كنعان قد رحل عن دنيانا، في ظروف ملتبسة، وتولى غزالي منصب المسؤول عن المخابرات السورية في لبنان..)
ولقد سمعت نفسي اجيب بشكل تلقائي، ومن دون تفكير: انه غاية في الغباء..
انتبهت، متأخراً، إلى انني اخاطب رئيس الدولة، وهو من عينه، فاستدركت قائلاً: آسف، السيد الرئيس، لم اجد تعبيراً آخر، انه غاية في الغباء..
قال بشار الاسد، بهدوء: إلى حد هذا الحد..
قلت: نعم، سيادة الرئيس.. والمشكلة انه كان يستخدم اسمكم في كل جملة يقولها… قلت للسيد الرئيس، وقال لي السيد الرئيس..
قال بشار الاسد: هل حدث أن كنت عنده وسمعت منه مباشرة، او نقل لك عنه انه اهان هذا او ذاك من زواره، وخاصة من المسؤولين اللبنانيين..
اجبت بسرعة: اكثر مما تتصور، سيادة الرئيس..
سألني الرئيس: وماذا عن غازي كنعان؟!
قلت: لا مجال للمقارنة.. فغازي كنعان كان يعتبر نفسه، ويبلغ الناس انه يمثل دمشق، بالرئيس فيها والدولة عموما، وان الرئيس قد شرفه بهذا الموقع، وبالتالي فان كل من كان يحاول تجاوزه والقفز من فوقه، سيرتكب خطيئة عظيمة تجاه الرئيس وسوريا جميعاً..
انتبهت إلى أن الرئيس بشار الاسد قد “سرح” مع افكاره، فتجرأت وانتقلت إلى طرح الاسئلة.. قلت: كيف مات غازي كنعان، سيادة الرئيس!
روى لي، بهدوء، ما كنا سمعناه في المكالمة الهاتفية الاخيرة لغازي كنعان مع المذيعة المعروفة “ورده” في اذاعة “صوت لبنان”، مع بعض الاضافات، وخلاصته: انه نهض من النوم مبكراً كعادته، وخرج مع زوجته لممارسة الرياضة ثم عاد إلى البيت فاستحم، ثم ارتدى ثيابه ونزل إلى مكتبه في وزارة الداخلية (التي كانت من قبل مقر رئاسة الحكومة).. وهناك أجرى اتصالاً هاتفياً، ثم خرج مسرعاً فركب سيارته وذهب إلى لقاء ما.. وعاد بعد نصف ساعة تقريباً، وكان متجهم الوجه، ودخل إلى مكتبه، واقفل الباب من الداخل، ثم تناول بندقية واطلق النار على نفسه..
قلت: اسمح لي، سيادة الرئيس، لقد سمعنا جميعاً المكالمة الاخيرة التي اجراها وزير داخليتك، حينها، مع ورده.. ولكنني كنت آمل أن اسمع منك ما يفسر هذا الانتحار الغامض..
قال بشار الاسد: هذا ما عرفناه حتى الآن.. والتحقيقات مستمرة.
قلت بعد لحظة صمت: اما وان صدركم رحب، سيادة الرئيس، فإنني اطمع في أن اطرح مزيداً من الاسئلة عن قضايا خطيرة ومعلقة؟
قال: مثلاً؟
قلت: اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري..
اعتدل الرئيس الاسد في مقعده كمن يستعد لحديث طويل: قد لا يصدقني كثير من الناس، وربما تكون منهم، اذا قلت اننا لم نعرف، حتى الساعة، من اغتال هذه الشخصية البارزة والصديقة لسوريا.. ولكنها الحقيقة. وباختصار، اعترف واقسم لك برأس ابي وبكل الايمان المغلظة، اننا ضعنا في مواجهة هذه الجريمة الفظيعة والمتقنة والتي لا يمكن أن تنفذها الا جهات دولة قوية ونافذة وذات خبرة عريقة.
صمت لحظة، وغرق في تفكير عميق، ثم عاد يقول: الحقيقة اننا ضعنا، واصاب الشلل الاجهزة جميعاً، المخابرات السورية واللبنانية. كانت الجريمة فظيعة في خطورتها، كما في اتقانها. لا بد أن المخططين والمنفذين يتحلون بخبرات عريقة، وقد اعدوا لها بجدية، وربما خلال شهور..
توقف قليلاً عن الكلام، ثم اضاف وقد اربد وجهه: ثم، ما مصلحتنا في اغتيال هذه الشخصية المميزة التي انطلقت إلى موقعها الممتاز من دمشق، وظل صديقاً كبيراً لنا حتى يومه الاخير.. وحتى لو أشار البعض الى علاقته الوطيدة بالسعودية فالرد بسيط: ونحن هنا في سوريا علاقتنا ايضاً وطيدة بالمملكة..
توقف مرة أخرى عن الكلام ث قال كمن يسأل نفسه: ولماذا نقتل مثل هذه الشخصية العربية النافذة وذات العلاقات الدولية الممتازة، وهو لم يقصر ابداً في مساعدتنا، حيث امكنه المساعدة..
*****
في طريق العودة إلى بيروت، كنت أفكر ملياً: اين يمكنني أن انشر هذه المقابلة الصريحة والكاشفة لكثير من غوامض السياسة في لبنان وسوريا والمنطقة العربية باسرها.
ربما لهذا احتفظت بها بين اوراقي، حتى اليوم.