أجد نفسي في سباق مع السابقين لتكريم الناشر السابق، ولقد احتجت النسوة على احتكار الذكورة لتكريم طلال، فاقترحت أن تكون السيدة ريما خلف بين المتكلمين لأنها اصبحت مسؤولة سابقة وذات صحيفة سوابق تشرف العرب اجمعين.
منذ نصف قرن، حَمَلْتُ على كتفيّ أكياس المؤونة وصعدت بها مع إخوة لي في حركة القوميين العرب إلى الطوابق العليا في بناء قيد التشييد، وذلك إسهاماً منا في اصدار مجلة الحرية التابعة للحركة، وكان طلال سلمان المحترف الوحيد فيها بين هواة، فحَمَلها على ظهره، وتقاضى ألف ليرة شهرياً عداً، الأمر الذي أثار دهشتنا واعتراضنا.
عندما أصدر “السفير”، اعتبرت انه استأنف الشراكة مع الذين دفعوا عرقهم ثمناً للحرية، وعلى هذا، ومن باب التضامن، أعلن أنني أضع ثروتي الطائلة في خدمة صاحبة السعادة.. “السفير”.
لم يدخلنا طلال سلمان في حَيْرة عندما أصدر سفيره، بل أقال خيالنا من عثرة تصور ابن شمسطار، بأصله وفصله، وقد ضاق عليه خناق “الرودنغوت” وفراشة العنق، فاخترع بدل الفراشة بصمة على عنق “السفير” الجديد هي حمامة من فصيلة زاجل… كلفها أن تكون جريدة لبنان في الوطن العربي، وبالعكس، إلى أن تقطعت منها الأنفاس بعد أربعة وأربعين، وراحت تلهث من طيرانها المستدام، ومن وطأة الرسائل وتناقضاتها وغرائبها، حتى إذا بلغ بها العياء مبلغه، وتعرضت لاجتياح بنادق الردع العربي وأقلام الرقيب وقرارات الإيقاف، حطَّت مجهشة، نازفة لونها البرتقالي، المستبشر، لمصلحة مساحات مترامية من أوراق النعيِّ العربي واللبناني والفلسطيني والتجربة الاشتراكية الخائبة.
ألهذا جَدَعَ طلال حمامته، كما فعل قصير عندما جدع أنفه، أم أنه أراد أن يفحص ما تبقى من مكونات دمها الأول غداة الانطلاق، فراعه أنه لم تتبقَّ منه نقطة واحدة، بعدما جفت الأمصال وتجندل الأبطال، وَخَشُنَتْ الطباع والطباعة، وتَخَثَّر الحبر، وتجعَّدت الصفحاتُ وتراجعت صناعة أوراق الصحف، وقد صُنِّفَتْ أوراقاً مضرة، لفائدة أوراق أخرى صحية، ومناسبة لمزاج الهيمنة والتسلط السياسي والثقافي.
أيها الأصدقاء،
نلتقي هنا على مشاربنا.. لإلقاء التحية..
وللتحية أشكال تبدأ بالسلام العسكري ولا تنتهي بدمعة تترقرق، وكل منا له طريقته، فائذنوا لي على طريقتي أن أقول: إنه لم يزل في جناحي الطلال الزاجل بقية من طيران، ولا زالت جعبته ملأى بالرسائل المكتومة، وهو حرٌّ في أَن يتوقف عن الصدور، لكنه ليس حرًّا في مسألة الورود، لأنه على مدى حفره للصخور بسن القلم، انبجست من حوله ينابيع كثيرة، منها ما طاب، ومنها ما لم يَطِبْ، ولكنه بقي السَّقّاءَ حاملَ القِرب وحامل مأساة مهنته المتراجعة لمصلحة “الكبانية” التي مدت أنابيب المياه إلى البيوت على حد ما تقوله أغنية سيد درويش الخالدة “السَّقّايين”.
أمثالنا يستطيب شرب مياه القرب مصحوبة بالطرب، فالسَّقَّاء كان يغني تخفيفاً على نفسه من عبء الأحمال. وطلال مطرب صحافي كما وصفه الرئيس الحص غداة محاولة الإغتيال.. فلقد اخترقت الرصاصات المجرمة فَكَّهُ، ونجا اللسان، كما نجت الأنامل المنجبة للكلمات، وخضع وجهه للتجميل، وكنا نفضله على سحنته الأولى مثلما فضلنا “السفير” دائماً ذات حمامة برتقالية وآمال وردية، وبيدراً يتجمع فيه حصاد النخب..
علي أن أذَّكره الآن بما قاله للاستاذ هيكل عندما أعلن اعتزاله الكتابة لبلوغه الثمانين “هل استأذنتنا قبل اتخاذ قرارك؟” ولكنني، ومن باب اللياقة لا أرد عليه سؤاله.
فقدت السفير بعضا من عذوبة المناجاة، بغياب ناجي، وانسدلت شاشة أنس لا تنسى بانتهاء مسرحية ونوس، وتسربت من سمائها نجوم، وبقي فيصل في مدارها يحوم، بل إنه ما زال في كل واد يهيم بحثاً عن مسألة “يفكر فيها”، أو عن ذكريات قديمة في البداوي التي زارها منذ شهر وقدم نفسه وشهرته هناك لصاحب حانوت مسن، فقال له الرجل: “أنت ابن أبي طلال”.
الآن أسأل بكرَ أبي طلال، جارَ مدينة الشمس ووادي العرائش، بأيِّ الأغاني يناجي أصداء الهديل المتنائي.
أيقول: يا جارة الوادي طربت.
أم: أيا جارتا لو تعلمين بحالي.
أم: يا جارة الأيك أيام الهوى ذهبت.
أم أقول له أنا باسمكم:
كيف حالك يا جار
لو تعرف شو صار
قطفنا من ورداتك وردة وشكلنا الزنار…
كلمة القيت في الحفل التكريمي لجريدة “السفير” الذي اقامته جمعية التخصص والتوجيه العلمي في 2017/3/23