نشرت هذه المقالة في “السفير” في 1988/3/30 خلال الانتفاضة الأولى.
بفرمان همايوني مكتوب بلغة أميركية ركيكة، أعلن إسحاق شامير فور عودته من واشنطن النبأ الخطير: لقد ألقت إسرائيل، أخيراً، القبض على الأرض!
بعد شامير، تناوب على شرح التفاصيل جنرالات الذي لا يقهر، فأكدوا إنهم أنجزوا المهمة التاريخية بعد طول مطاردة لأطراف الشبكة جميعاً: الماء ، الهواء، الشمس، التراب والحجارة المتفجرة!
ثم شرحوا الخطة العبقرية، فقالوا:
“إن إسرائيل جاءت بقنابلها الذرية فأقامت سوراً حول فلسطين، ومنعت الاقتراب ورفعت لافتات مكتوباً عليها “احذروا الحب العربي القاتل.. واحذروا الغضب العبري القاتل”!!
“واحتلت إسرائيل سماء فلسطين (وما جاورها)، فأطلقت طائراتها الأميركية الجبارة تملأ الفضاء هديراً منذراً بالفناء، وتركت في المؤخرة الطائرات البريطانية والفرنسية موكلة إليها مهمة مطاردة الفراشات والطيور، حتى لا يكون ثمة شهود أو شهادات ميدانية!
“وحاصرت إسرائيل الأرض من البحر، فملأته سفينا (بوارج ومدمرات وفرقاطات وكاسحات الغام وغواصات نووية استعارتها من الأسطول السادس).
“وأطلقت إسرائيل على العملية غير المسبوقة اسماً رمزياً هو “الفيل والذبابة”!!
“وضماناً للنجاح المطلق وسط صمت مطبق فقد صادرت إسرائيل عدسات المصورين والفلاشات التي تبرق فتسقط بعض العتم، وحجزت أقلام الصحافيين وأفكارهم، واقتحمت مخيلة الكتاب والروائيين والشعراء فمسحت منها كل ما يمت إلى الأرض بصلة القربى لفظاً ومعنى…
“بعد ذلك أطبق تساحال على الأرض من جهاتها الأربع…
“وهكذا وقعت الأرض العاصية في الفخ، ولا مهرب أو مغيث أو ثغرة للنجاة…
ولقد أغلقت إسرائيل الأرض على ذاتها وذويها، وصادرت كل ما كانت تحمله وتهددها به:
حبست إسرائيل الورد وعطره، زهر اليمون وشذاه، الأحلام وألوان الطيف فيها، أنفاس الناس وهمهمات الغيظ المكظوم، أسماء الشهداء وأجداثهم، الأنهار، الأشجار، السواقي، وقوس قزح الذي كان مرتسماً بالمصادفة إذ اعتبرته بشارة بالفجر الآتي،
حبست أيضاً الحروف والأسطر وذبذبات الهواء التي تتم عن طريقها عمليات التخابر مع الجهات الأجنبية، الصوت والصدى، آهات اللهفة وشهقات الاستفسار الملتاعة عن حبيب انقطعت أخباره. قصائد الحب والأغاني ومواويل الوجد التي تطلق في وداع الشمس وطلب الموعد التالي،
فرضت الإقامة الجبرية على الحجارة والحصى، على التراب والرمل، على شجيرات القندول المشتعلة بلون الزعفران، على مروج السندس الذي يتخذ اسماً حركياً، “ابن عامر”.
اعتقلت إسرائيل الربيع إذ ضبطته بالجرم المشهود : كان يهمس بكلمات التحريض فينشق بطن الأرض وتخرج إلى النور والهواء نبتات ضعيفة تتماوج مع الهواء الطري، لكنها في غد – كما تؤكد معلومات الموساد والشين بيت، وهي لا تخطئ – ستعطي قمحاً وعنباً، بلحاً وزيتوناً، تفاحاً وعناقيد ياسمين…
ووفقاً لأوامر الحاكم العسكري العرفية فقد منعت إسرائيل ثغاء الحملات والجديان، وحظرت على الأفراس والمهور أن ترمح في المسافة بين الرصاصتين.
… وهكذا اكتملت الدائرة واصطنعت إسرائيل ما عجز عنه غيرها: استولدت، بالقوة، بالبركان!
الصورة جارحة تفقأ بحدتها عيون العرب والعالم أجمع: الأبيض أبيض والأسود أسود ولا مجال للرماد، لوناً وطعماً وعذراً لافتقاد وضوح الرؤية!
الباطل كله في مواجهة الإيمان كله!
كل أنواع الأسلحة ، كل أسباب الدمار، كل إرادة القتل، كل الوحشية، كل ما تعلمناه على إنه الهمجية والبربرية أو (بلغة العصر) النازية والفاشيثة، يخرج في مواجهة الدنيا بأسرها بلا قناع، محتمياً بانتمائه إلى “العالم الحر” وبأسطورة إنه “واحة الديموقراطية في المنطقة الأكثر تخلفاً والأقل استحقاقاً لنعمة الحرية وتقرير المصير”!!
… وثمة في العالم من يهب لنجدة إسرائيل وإنقاذها من نفسها، كما يفعل جورج شولتس،
… وثمة فيه من يعتبرإن ثمة مشكلة جدية لكنه لا يعرف كيف يحلها لأن حلها يتطلب الاعتراف بأن هؤلاء الذين يتحركون فوق هذه الأرض المحتلة هم جزء من شعب… وهذا الشعب بائد أو إنه “غير موجود” أصلاً إلا في الذكريات والتاريخ.
والاعتراف بفلسطين يلغي إسرائيل التي يرتبط وجودها بإلغاء غيرها، وإسرائيل حقيقة باردة وواقع قاس وصلب وصلد وصلف، فكيف ينكرها عاقل؟!
… وإذا تم الاعتراف بفلسطينية الأرض وجب الاعتراف بفلسطينية الشعب، وطالما إن الشعب الفلسطيني والأرض فلسطينية فلا بد من الإقرار بوجود “وطن” فلسطيني، والوطن لا بد أن يتجسد بدولة، إذن فلتكن المملكة الأردنية الهاشمية هي “دولة” هذا الشعب… وهكذا تبقى الأرض إسرائيلية وتصير الشرطة هاشمية وتسقط هوية الشعب، لترتفع راية السلام الأميركي، وكان الله يحب المحسنين!!
يزهر الوطن في عيون الصبايا، فلتفقأ عيون الصبايا والعجائز! يسكن الوطن في الحلم، فليقطع راس الفتى الحالم!
يجول الوطن في الشارع، فلينسف الشارع بمن فيه،
يملأ الوطن الهواء فلينشأ جهاز لإبادة الهواء،
يقتحم الوطن قرص الشمس فيتم استدعاء يشوع بن نون، كرة أخرى، ليمنع رحلة الضياء من أن تتم في مواعيدها المحتومة!
من ذا الذي يغلق الأرض؟
من ذا الذي يعلن الحرب على الأرض؟
من ذا الواهم إنه يستطيع الانتصار على الأرض بقوة سلاحه؟!
إذا السيف هي، وهي الرمح، وهي هي اندفاعة الزند الفتي إلى مداه،
إذا الصخرة هي وهي الوردة والنغم الشجي ومصدر الخصب ومنبت الحياة،
إذا هي جدث الشهيد ومهجع عظام الأجداد وعلة وجود الأبناء ومصدر عزة الأحفاد القادمين،
إذا هي الهوية والقضية، الكرامة والانتماء، الرغيف والينبوع،
إذا هي الاسم والمسمى، المبنى والمعنى، النول والمغزل واليد الساهرة لحياكة الدفء والعافية،
إذا هي الوالدة والمولود وحليب الرضيع ومرتع الصبا والمرجع والملاذ الأخير.
إذا هي الحمى والحماية، الرأي والراية، البداية والنهاية، وسدرة المنتهى…
إذا هي “هم”، إذا هي “أنتم” إذا هي “نحن”، فكيف يأخذونها ونكون؟!
إذا هي سمرتك فكيف يعرفك الناس يا البلاد وجه ولا ملامح ولااسم ولا شهادة ميلاد؟!
الأرض يومنا وغدنا، تحتفل بنا منذ الأزل وإلى الأبد، تغثينا وتحمينا، تطعمنا وتأوينا، تنصرنا وتفتدينا ، تعزنا وتبهجنا وتغنينا وتبقينا…
للأرض كل الأيام، كل الشهور والدهور،
قف على أرضك تحفظ أرضك.
احمل حجرك واتبعهم،
ارمهم بحجرك (حيثما لقيتهم) تستنقذ وطنك، وجودك والمستقبل والكرامة،
فمن الأرض الحجارة، ومن الأرض الإنسان، وإلى الأرض الإنسان،
كن إنساناً، كن بعض أرضك، كن فيها، كن منها، كنها تكنك.
والحياة رابط بالأرض، والموت عروة وثقى معها.
احمل حجرك واتبعهم، احمل حجرك والتحق بهم، احمل حجرك واضرب معهم.
وليكن قولك الفعل: يا أبناء الأرض، لستم وحدكم، فنحن أخوتكم في الأرض، أخوتكم من قبل واليوم ومن بعد وهذه حجارتنا شهادات ميلادنا.
وكل حجره بيمينه!