مع صدور “السفير” في ربيع العام 1974 أجرى الزميل الراحل الياس عبود تحقيقاً على حلقات عن نهر الليطاني، وقد رأيناه مهدداً بما جرى له فعلاً بعد ذلك من انتهاك لمجراه وتجريف، ورمي النفايات فيه، مما حوله إلى مكب للزبالة والمياه المبتذلة.
مشى الراحل الياس عبود مع النهر من منبعه في “العليق” قرب بعلبك إلى مصبه في “القاسمية” حيث يتبدل اسمه بمنطقة مجراه مخترقاً الجنوب كله تقريباً (بالعرض)..التقى المزارعين وأهل الارض، سأل خبراء السدود، كما استجوب المسؤولين عن المجرى وعن السد او بحيرة القرعون لوقوعه في خراجها (والقرعون، للمناسبة هي مسقط رأس الياس عبود..)
كانت صرخة في الهواء تستهدف إنقاذ أكبر نهر في لبنان (خصوصاً وان نهر العاصي قد خالف معايير الطبيعة، كما يدل اسمه، واتجه نحو الشمال الشرقي ليصل إلى حمص ويكمل طريقه إلى مصبه غير بعيد عن الحدود التركية)..
ولقد التقى الياس عبود الاهالي في جميع البلدات والقرى التي يعبر فيها النهر، كما ذهب إلى المسؤولين الرسميين في مصلحة الليطاني، وقابل عدداً من الوزراء المعنيين، وحذر من كارثة مقبلة، تتجاوز الزراعة والري إلى الصحة العامة، إذا ما تحول النهر إلى مكب نفايات، ويتحول إلى مستنقعات تنشر المرض بين الاهالي على الضفتين.
اهتم بعض المسؤولين، ورد علينا بعضهم غاضباً ونافيا أي خطر على النهر او منه، معتبراً أن في التحقيق الكثير من التهويل، وان الدنيا بألف خير، وان الليطاني مستمر بأمان في مجراه من منابعه في منطقة بعلبك وعبر سهل البقاع من اقصى شماله وعبر غربه وحتى مصبه عند ساحل القاسمية في الجنوب.
بعد اثنين واربعين سنة، وقبيل اقفال “السفير” انطلقت الزميلة سعدى علوه لإجراء تحقيق مماثل للذي اجراه الراحل الياس عبود، فمشت مع مجرى النهر من مصبه الذي ضربه الجفاف كما ضرب المرحلة الأولى من مسار النهر، عند حدود البلدات المنتشرة على الضفتين: بوادي حوش باي طاريا، مزرعة موسى فريج، حوش الرافقة، بدنايل، تمنين، الفرزل، تربل، وصولاً إلى زحلة بوادي العرايش والمطاعم والمقاهي فيه، قبل أن يخترق السهل متابعاً سيره إلى حيث اختير موقع سد القرعون، بإشراف المهندس العظيم الراحل ابراهيم عبد العال.
كانت الدنيا غير الدنيا، واختفى النهر (بمجراه) تحت ركام النفايات، وغمرت مياهه المجارير والمياه المبتذلة التي حولها اليه الاهالي من قرى الضفتين..
وكما في التحقيق التاريخي الاول، ذهبت الزميلة سعدى علوه إلى المسؤولين كافة، في مجلس ادارة مؤسسة الليطاني او في الوزارات المعنية، لتسمع صيغاً مختلفة لنعي الليطاني، بمجراه الطويل وسده الذي رأينا فيه انجازاً تاريخياً.
لم يكن هناك نهر، بل بحر من النفايات والمياه المبتذلة والمجارير، وبالتالي مصدر للأمراض المختلفة والسموم وسبب لانتشار السرطان في المنطقة على امتداد سهل البقاع.
..وما زال المسؤلون في الحكومة والمجلس النيابي والقصور الرئاسية، بألف خير، يطلقون الوعود حول ضرورة حماية المواطنين من مخاطر انتشار الامراض السارية، والسرطان بالذات، نتيجة ما يُرمى في مجرى النهر من نفايات، وما يصب فيه من المياه المبتذلة والمجارير والقاذورات.
النهر في خطر،
والناس، على امتداد المجرى لا تريد الهجرة، ولا هي راغبة فيها او قادرة عليها، وتتمسك بأرضها وبحقها في البقاء فيها عملاً بالقول المأثور:
“وطني لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه / نازعتني إليه في الخُلدِ نَفسي”
حمى الله الليطاني وأهل الضفتين والمصب.