لم تعد حكاية تأليف الحكومة الجديدة في لبنان طرفة تُروى في سهرات الأنس تدليلاً على فرادة هذا الوطن الصغير بنظامه الغير شكل!
لقد باتت خليطاً من المهزلة والمأساة يطعن في أهلية هذه «الدولة» للبقاء كتجسيد سياسي للكيان الذي أنشئ من فوق رؤوس اللبنانيين، وفي لحظة تاريخية لم يكن لهم ولا لأهلهم «العرب» أي تأثير على القرار الغربي بشأن حاضرهم ومستقبلهم جميعاً.
لم يعد مقبولاً بأي حال التذرع بالألقاب التي سوف تحملها هذه الحكومة العجائبية، من «وحدة وطنية» إلى «ميثاقية» ومن «اتحاد وطني» إلى «أكثرية تحكم وأقلية تعارض»، فإلى وصايا «فيلتمان» حول ضرورة احترام النتائج الديموقراطية لقانون الستين.
ولم يعد مقبولاً التذرع «بالخارج»، عربياً وإقليمياً ودولياً، في هذا البلد «البلا داخل» أصلاً، والذي لم يشكّل «أهله» ـ منفردين ـ أياً من حكوماته، على امتداد تاريخ كيانه المدوّل منذ ولادته.
صار لا بد من حسم الأمر بشأن هذه الفضيحة المسيئة إلى كرامة اللبنانيين كرعايا طوائف في هذا الكيان الهجين الذي يحرمهم من شرف المواطنة، وبالتالي من حق القرار في شؤونهم.
في زمن ليس ببعيد، كان «العرب» ينظرون إلى لبنان كأنه «معجزة» وفدت عليهم من حيث لا يعلمون، ويتعاملون مع اللبنانيين على أنهم «جنس آخر»، يختلف عنهم كل الاختلاف، كأن لهم هويتهم الخاصة المنفصلة عن مكوّناتهم البيولوجية، ويختلط في مشاعرهم التقدير الاستثنائي لهؤلاء «الإخوة» الذين يتميّزون عنهم إلى حد الغربة مع الإشفاق الذي يهدهدهم بالإعجاب الذي سرعان ما ينقلب إلى خوف منهم!
فاللبناني في العين العربية مخلوق عجيب، قادر على الإبداع في أي مجال، ولو كان طارئاً عليه، (لا سيما خارج حدوده)، لكنه هش التكوين وقابل للانكسار في لحظة، بقدر ما هو قابل لأن يتحوّل الى وحش يفترس ذاته وينقل عدوى الشهوة إلى الدم عند الآخرين، من «إخوته» في لحظة أخرى، ومتى كان داخل «بيئته» في الكيان الذي لم يكن في أي يوم وطناً.
ولأن لبنان «كيان» والكيان قرار سياسي للآخرين، فلا هو تعامل مع «اللبنانيين» على أنهم «مواطنون» متساوون فيه و«شركاء» في المسؤولية عنه بقدر ما هم «شركاء» في نعمة العيش في ظلاله، ولا هم استطاعوا أن ينتسبوا إليه بانتمائهم الوطني المشترك، بل ظلوا فيه «رعايا لطوائفهم»: لكل طائفة قيادتها وحصتها من نعيم الكيان لا يجوز أن تتجاوزها مخترقة «خطوط التماس» وإلا وقعت الواقعة.
فالنظام يقوم على مجموعة من «التفاهمات» الطوائفية المؤهلة لأن تبتدع نوعاً من «الديموقراطية» الفريدة في بابها..
والطوائف دول. والدول مصالح.
ولكل طائفة حق «الفيتو»، الذي يشكّل «خط تماس» مع الآخرين، فإن تمّ خرقه كانت الحرب الأهلية.
والدول توازنات. وكلما اختل التوازن القائم من حولنا تهدد الكيان في وجوده… وغالباً ما افتدى النظام نفسه فضحى ببعض شعبه ومعه بعض رموز طبقته السياسية، مفسحاً في المجال أمام قوى جديدة مؤهلة لاختراق النظام باعتبارها الأكثر تمثيلاً لطائفتها… والأكثر طائفية هو الأعظم ارتباطاً بالدول الراعية.
على هذا يمكن التأريخ للنظام اللبناني منذ ابتداع كيانه: فرنسا، بداية، ثم فرنسا ـ بريطانيا ـ سوريا عند إعلان «استقلاله»، ثم بريطانيا ـ أميركا ـ سوريا، ثم مصر (وسوريا ضمناً أيام دولة الوحدة) ـ أميركا، ثم بعد ذلك سوريا ـ أميركا مع السعودية كضيف شرف قبل أن تغدو طرفاً ثالثاً مع بطاقة عضوية دائمة في نادي الكيان الخالد!
[ [ [
ليست مبالغة القول إن خطوط التماس قائمة في كل مكان في لبنان، وبالتالي فهي قائمة بين اللبنانيين واللبنانيين في مختلف مناطقهم..
لا يتصل الأمر بالشياح ـ عين الرمانة (حيث لهذا الخط سمعة دولية!!)، ولا بجبل محسن ـ باب التبانة في طرابلس، (بكل ما يرافق ولادة الخط الجديد من رعاية متعددة الاطراف)، ولا ببعض مناطق البقاع وطرقاته (عرسال ـ العين ـ اللبوة ـ الهرمل فضلاً عن سعدنايل ـ تعلبايا… إلخ)، ولا ببعض أنحاء الجبل حيث الذكريات قابلة للاشتعال متى توفر السلاح..
إن خطوط التماس قد باتت داخل النفوس، تهدد الحياة الأسرية، ومكوّنات المجتمع الأهلي..
وهذا بُعد إضافي لخطورة أزمة التأليف والجدل البيزنطي السياسي في ظاهره وإن كان يخفي في طياته مشاعر الغضب والإحباط والخيبة والانكسار وتقصّد الإساءة إلى الرموز، وكلٌّ من شأنه تعميق أزمة العلاقات بين اللبنانيين الذين كلما افترضوا أنهم اقتربوا من حلم الدولة التي ستجعلهم «مواطنين» فيها، فاجأهم النظام الطوائفي بإعادتهم إلى حظائر تبعيتهم الطوائفية معلياً في ما بينهم خطوط التماس المكهربة!
لكأن قمة واحدة لا تكفي!
لكأننا نحتاج الى سلسلة من القمم بين قادة العالم جميعاً كي نفترض أن جميع «العائلات الروحية»، (وهو اسم الدلع للطوائف، في لبنان) قد تمثلت، وبالتالي فهي قد نالت الاعتراف بأهميتها وبدورها وبالتالي بحقها بالمشاركة في الحكومة العتيدة، وبالحقائب التي تختارها لتكون مناسبة لحجمها أو لتميّزها أو لإشعاعها أو لخطورة تغييبها، أو لكل ذلك معاً.
إن خطوط التماس تمتد طولاً وعرضاً، على مدار الساعة، وهي مكهربة الآن… فلا بد من شجاعة استثنائية لاقتحامها، لاستنقاذ ما تبقى من «الدولة»، وعبرها يمكن استنقاذ «الرعايا» الذين لم يفقدوا الأمل بعد في أن يكونوا «مواطنين»! ولا يريدون بالقطع أن يعيشوا في أسار حرب أهلية لا يمكن لأي طرف أن ينتصر فيها، بل الكل سيخرج مهزوماً وبجراح ثخينة ليعيش في ظل وصاية جديدة قد تزيّنها أعلام السيادة والاستقلال وانتصار الديموقراطية، لكن الغائب الأساسي عنها سيكون «المواطن» الذي سيفتقد، إضافة إلى الوطن، دولته التي كان يحلم بأن توفر له الأمان… خارج خطوط التماس قاتلة الأوطان وأهلها!
نشر هذا المقال في جريدة “السفير بتاريخ 12 تشرين الأول 2009