قبل سبعين عاما وفي إحدى أكبر دور العرض السينمائي في العاصمة المصرية، شاهدت الفيلم الذي ترك بصماته على أحلام يقظتي ونومي أيضا لأيام وسنوات. أذكر أنني خرجت من دار العرض وكانت الحفلة صباحية، لم أفعل شيئا سوى التسكع حالما في شارع الألفي لأعود وأقف في طابور التذاكر لحفل الثالثة والنصف. وفي الصيف التالي والمواسم اللاحقة لم أترك فرصة تضيع ليعرض الفيلم في إحدى الدور غير المغطاة التي كانت تغص بها القاهرة ولا أشاهده. أظن أنه في مرحلة من مراحل المراهقة لم تفتني المساهمة بمداخلة استرجع فيها مشهدا أو آخر من الفيلم كلما حضرت مناقشة مفتوحة عن الحور اللائي وعد بهن الأتقياء الصالحون، أو قراءة عامة في قطعة من أدب الاكتشافات والرحلات الجغرافية، أو محاضرة أكاديمية في علم الأجناس. بالفعل عشت فترة اشتهرت فيها خبيرا في موضوع الجمال وبخاصة مواقع التقاء جمال الطبيعة بجمال البشر. كله بفضل فيلم عصافير الجنة بطولة لويس جوردان وجيف شاندلر والرائعة التي سلبت لبي الممثلة الناشئة دبرا باجيت.
عادت القارة الزرقاء تحتل مكانة متقدمة من تفكيري في الآونة الأخيرة، عادت إلى الذاكرة صور المحيط الهادي، مساحات من المياه الممتدة في كل اتجاه نحو آفاق لا نهائية ولا محددة. عادت معها صور الجزر الخضراء البكر، أشجار تحمل أجمل الثمار وأروعها أشكالا وألوانا كأشجار الكريسماس بزينتها ليلة العيد. عادت إلي الذاكرة صور كثيرة. كم تمنيت لو بقيت في الذاكرة لا تغادر. مكانها هناك وليس هنا. هنا تصادمت مع منغصات الحلم وتعقيدات واقع شاء بتصرفات ناسه وأساليبه أن يبدو همجيا وفي مشاهد معينة مفترسا.
أتحدث هنا عن سباق دائر بين قوى دولية كبرى عرفت منذ القرن السادس عشر كيف تتسلل إلى النصف الجنوبي لهذا المحيط الأعظم ضمن حملات اكتشافات واحتلالات غطت معظم مياه ويابس نصف الكرة الجنوبي، وقوى دولية كبرى ولكن ناشئة في طموحها جامحة في شهوتها للامتلاك والهيمنة. صدمتني صور القادة الجدد وحكام هذه البلاد وهم يتدافعون بالأساطيل أو برجال يرتدون طواقم عمل كحلية أو حالكة السواد وأربطة عنق بألوان زاهية وفي يمناهم حقائب أوراق مكتظة بالمشاريع الاستثمارية والقروض السخية في شروطها والرسومات الهندسية. كم حقيبة تحتوي على مشروع بناء ميناء جديد يختص باستقبال سفن الصيد العملاقة، كم حقيبة أخرى تحمل عرضا بقرض يمول مشروعا ينتهي بالحفر تحت هذا الجبل الأخضر الجميل لاستخراج فحم ونفط. جاؤوا من أمريكا والصين واستراليا ليقضوا على هذه الطبيعة الناعمة والهادئة ويتركون وراءهم كتلا من صخور سوداء وآثار أيادي شوهت المكان. هؤلاء لن يرحلوا. هم واثقون أن حكام هذه الجزر واقعون تحت إرهاب من لا يرحم.
المياه في المحيط الهادي كالمياه في المحيط الهندي ارتفع منسوبها ليصل في مواقع كثيرة إلى حد الخطر. جزر عديدة كانت مرتعا لسياح ومتقاعدين فضلوا أن يقضوا أحلى أيامهم تحت ظلال وارفة وبين شعوب آمنة ومسالمة. هذه الجزر وقد صارت دولا مستقلة بعناوين مثل فيجي وفالواتو وسولومون تعد الأيام الباقية لسكانها إذا استمرت الولايات المتحدة والهند واليابان تستخدم مصادر طاقة مؤذية للبيئة. أملها معلق بيوم تقرر فيه هذه الدول الكبرى المتسابقة على احتلال مواقع نفوذ في جنوب الباسيفيكي أن تعجل بتنفيذ برامج تستعد على وقف تردى المناخ العالمي. سمعت رجل علم عاش في جزيرة من هذه الجزر وأحب الطبيعة فيها والبشر وتزوج من عصافير الجنة عصفورة، سمعته ينقل عن حكمائهم، الذين هم في حقيقة الأمر نصف حكماء ونصف سحرة، “جاءنا رجل أبيض، باع لنا أخلاقه وأديانه مقابل استمتاعه بجمال طبيعتنا ووفرة أسماكنا. ثم جاءنا رجل أصفر وأفواج جديدة من الرجال البيض، كلهم يبيعون قروضا مقابل قواعد عسكرية. لا أحد منهم مهتم بقضيتنا، قضية شعب يغرق”.
الاستراليون قلقون. هم سادة ووكلاء في آن واحدة. اتصور أن للقلق الاسترالي مصادر كثيرة، أهمها في نظري تراجع الثقة لدى الطبقة السياسية الحاكمة في استقرار السياسة الخارجية الأمريكية وانضباطها.
يدرك الاستراليون كغيرهم من قادة السياسة في جنوب شرق آسيا أن الولايات المتحدة المسؤول الرئيس في العالم عن إطلاق ثم اشباع شهية العملاق الصيني إلى العالمية. يدا بيد اشتغل الأمريكيون مع الصينيين في توظيف العولمة لخدمة صعود الصين إلى القمة مشاركا وفي القريب العاجل منافسا. صحيح أن كل الاقتصادات، سواء الغربية أو في دول الجوار الآسيوية واستراليا في المقدمة، استفادت من انفتاح الصين وشجعته، ولكنها فعلت ذلك تحت مظلة الاطمئنان إلى وجود أمريكا ضامنا وحاميا. كانت أمريكا موجودة ولكن في حال انحدار منذ اكتشاف نواحي ضعفها عندما اختارت الإعلان عن القطبية الأحادية نظاما دوليا جديدا دون أن تدقق في حسابات قوتها الحقيقية وحال بنيتها التحتية.
المقارنة غير جائزة بين ما أصاب إفريقيا والعالم بسبب السباق الأوروبي على استعمارها في نهاية القرن التاسع عشر وبين ما يمكن أن يصيب دول وجزر وشعوب جنوب الباسيفيكي بسبب السباق البادئ لتوه من جانب فرنسا وأمريكا واستراليا من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى. أعتقد أن العقل الأوروبي الذي استهان بصحة ومعيشة شعوب الباسيفيكي الجنوبي حين أجرت معظم تجاربها النووية في تلك الجزر أو جزر قريبة منها لن يهتم كثيرا بجزر وشعوب تفقد مساكنها ومزارعها ومدارس أبنائها مع موجات عالية متزايدة التكرار. هذا العقل لن يهتم بعصافير الجنة التي شكلت أحلى ذكريات طفولتنا وسنوات مراهقتنا.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق