بينما لبنان كله، من اقصى الشمال إلى اقصى الجنوب مروراً ببيروت، يعيش آلامه وأوجاعه المبرحة، في ما يمكن تشبيهه ب الجمعة العظيمة إذا بالسلطة البتراء التي لا تكف عن استيلاد الأزمات، تتخذ قراراً مستفزاً في شأن حساس جداً هو إلغاء التعطيل الرسمي في هذه المناسبة التي يوليها المسيحيون في العالم أجمع أهمية استثنائية لاتصالها بجوهر عقيدتهم الدينية.
من يرتكب مثل هذا الخطأ الفاضح، وفي لحظة عصيبة وطنياً، نتيجة افتقاد الحكم إلى شرطه البديهي: الاجماع، يكشف مرة أخرى عجز هذه الحكومة البتراء عن مواجهة مسؤولياتها العادية، فكيف بالتصدي لخطر استثنائي داهم يتمثل في اندفاع تنظيمات تكفيرية إلى الهجوم، وعلى أكثر من جبهة، قد يكون اعتداء جماعة فتح الإسلام على الجيش انطلاقاً من مخيم نهر البارد أكثرها دموية لكنه ليس آخرها… أقله كما تدل وقائع الأمس في أبي سمرا بطرابلس!. وقد لا يكون اخطرها كما يدل الاعتداء على السلامة الوطنية ممثلاً في التفجير الذي استهدف الكتيبة الاسبانية المشاركة في القوات الدولية على الطريق العام إلى الخيام، مقابل مستعمرة المطلة الإسرائيلية.
هذا في الهامش، أما في متن الموضوع فليس من حق اللبنانيين ان يستغربوا إفشال مهمة عمرو موسى ولجنته العربية التي استولدت على عجل، وجاءت بغير تمهيدات جدية توفر لها الحد الأدنى من ضمانات النجاح.
لم تأت هذه اللجنة المرتجلة يواكبها بل يسبقها تفويض علني وجدي من اصحاب القرار (ترى هل ثمة عرب بين اصحاب القرار؟!)…
وبالتأكيد فإن دبلوماسياً عريقاً في قراءة السياسات الدولية، مثل الأمين العام عمرو موسى، يعرف ان هذه المهمة المستحيلة محكومة بالفشل، دولياً وعربياً، وبالتالي فلا يملك الاطراف اللبنانيون مهما ادعوا من عمق الالتزام بالسيادة والاستقلال، ان يوفروا لها عوامل النجاح.
ولأن عمرو موسى يعرف ، ومثله مجلس الجامعة، فقد اختار لبنان بديلاً من التصدي للموضوع الفلسطيني المتفجر، والذي اتخذت الدول قرارها بشأنه وقضي الأمر: دعم محمود عباس في كل ما يقرره، وفرض الحصار حتى السقوط على حماس في غزة، والافراج عن المساعدات المجمدة منذ فوز حماس في الانتخابات و استيلائها على الحكومة… بالديموقراطية، ثم فشلها في حماية دورها باتفاق مكة، واندفاعها إلى انقلاب رافقته الكثير من المظاهر الهمجية التي تبرر عزلها وتركها (مع المليون ونصف المليون فلسطيني في الجزيرة المطوقة براً وبحراً وجواً) تواجه مصيرها.
إلى لبنان إذن، ولكن بلا خطة، وبلا مقترحات محددة، برغم الوعي بخطورة الأزمة التي تعصف بكيانه، وبالاشتباك المفتوح على الدنيا بين قواه السياسية، حكومة بتراء ومعارضة لم تمكّن من المشاركة فخرجت أو اخرجت بالاحراج… وبعدها هجمات لتنظيمات تكفيرية قد تكون بعض تفرعات القاعدة أو بعض أصولها، إذا ما استعدنا تهديدات أيمن الظواهري.
… فأما السلطة الفلسطينية فإن أهلها قد هبوا لنجدتها، وها هم سيتلاقون اليوم في شرم الشيخ، ومن ضمنهم الإسرائيلي، ليشاركوها وربما ليتولوا عنها الحرب على حماس… من دون تحرج، أو مداراة لوطنية الفلسطينيين وهم يرون الإسرائيلي وقد اعتمده العرب طرفاً مقرراً في الشؤون الداخلية لبيتهم المحاصر والمجوع والمنقسم على ذاته.
وأما السلطة في لبنان فقد كان أهلها في شغل شاغل عن عمرو موسى، إذ كانوا ينتظرون بفارغ الصبر، موعد اللقاء (اليوم) مع وزيرة الخارجية الأميركية المكلفة رعاية شؤون العرب والمسلمين، وغداً مع الرئيس الفرنسي الجديد نيقولا ساركوزي، الذي تعهد للملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، بأن يتابع سياسة سلفه جاك شيراك بغير تعديل، خلافاً لما تبدى من خلال بعض التصرفات والتصريحات التي ارتجلها وزير خارجيته برنارد كوشنير.
ومع الاحترام لعمرو موسى فليس هو المرجع الصالح لأزمة الحكم في لبنان، طالما استمرت نائب الملك كوندليسا رايس في الامساك بهذا الملف وبالتالي بمصادر الأمان والاستقرار في لبنان… وكيف تراه سينجح في المصالحة الوطنية طالما ان الانشقاق هو ثمرة الاهتمام الأميركي (وبالتالي الغربي والعربي)، وهو هو الاستثمار المجزي للأزمة في الحرب التي تشنها الإدارة الأميركية على معترضي خطتها في هذه المنطقة التي تعتبرها واشنطن المدى الحيوي لسياستها التي تشكل إسرائيل ركيزتها المحلية، معززة بحكومات على طراز الذين سيشاركون في قمة شرم الشيخ اليوم؟!
إننا نشهد في معظم الدول العربية ظاهرة جديدة، أو توكيداً لظاهرة قديمة في السياسة الأميركية الجديدة خلاصتها ان السلطة أهم من الوطن،
… وها هو العراق تحت الاحتلال الأميركي شاهد وشهيد،
كذلك هي الحال مع فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، والتي لم تكن حكومة الوحدة الوطنية على قاعدة اتفاق مكة إلا هدنة قصيرة بين اشتباكين أو حربين ذهبتا بقداسة القضية وحلم الوطن، فضلاً عن وهم الدولة.
وللأمانة فإن السفير الأميركي في بيروت كان صادقاً ومنسجماً مع نفسه حين أمر عمرو موسى ولجنته العربية بالانصراف ومغادرة محميته اللبنانية.
وبالتالي فإن كل ما قيل عن العروض السخية لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، و التنازلات التي رافقتها، والتنافس على الاستجابة للمبادرة العربية التي استولدت قيصرياً، وجاءت وهي ميتة طبياً ليس إلا حديث خرافة، بينما الحديث الجدي اليوم في باريس… ولن يدور باللغة العربية بطبيعة الحال!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان