لبنان، ليس وطناً لأحد. الاسم الحقيقي هو الساحة. أنه ملتقى الأضداد والخصوم والاعداء. كلهم ها هنا. من أقصى البلاد الى أدناها. هو كذلك منذ ولادته، فلابأس اذا، من دعوتهم جميعاً، الاعداء والاصدقاء، الى “كلمة سواء”. أغلب الظن، ان القسمة والاقتسام، ستكون نافذة للحلول. يلزم ألا يخرج أحد خالي الوفاض. لبنان مشتبك حالياً، كما كان في مسلسل حوادثه، بين اعداء حقيقيين جداً. انهم اعداء الداء. نيرانهم مشتعلة في بؤر عربية كثيرة، ولم يفرغوا بعد من المحاصصة، بانتظار التسويات، التي تبدأ في واشنطن، ولا تنتهي في الخليج ولا في أي بؤرة مشتعلة، علماً، ان الحروب المستدامة، تنتهي دائماً، “بسلام المخدوعين”، أو “بسلام الجبناء”، لا سلام الشجعان.
لبنان ذو اختصاص. هو ممر ومكان اقامة، مختصرة او دائمة، ويشارك “اصدقاءه” و “اعداءه” في المهمات القذرة، وفي “الافكار النبيلة” و “العقائد الباسلة”، الصالحة للتجارة والتنازل. باختصار، هذا هو الفرض المركنتيلي، الذي لم تشذ عنه الطوائف، المستعدة أن تنام دائماً في الفراش، لإنجاب تسوية مؤقتة، لقضايا بلا حل، او لقضايا مزمنة.
حتى الآن، ما زال لبنان، ولبنانيوه “البواسل”، في فراش عاقر، لا ينجب حلاً، ولو مؤقتاً. لذلك لا بد من استعجال فحولة الطوائف، كي تنجب حلولاً، وطبعاً، بمساعدة الحلفاء الاعداء… ثبت دائماً، أن لبنان، امين لتراثة المنكود. كل معاركه، انتهت بتسوية، يوقع عليها ” لبنانيون”، من دون ان يكون لهم فضل الانشاء. انهم يفضلون الإملاء دائماً، على أن يتم ذلك، إما في فرنسا، قبل الاستقلال، وإما في سوريا، وإما في مصر، وإما في الطائف، وإما في سويسرا… لبنان، خريج كل هذه المدن التي نصحت زبائنها اللبنانيين، بالتوقيع والقبول بالقسمة، التي كانت الطوائف المغلوبة، تحسن حظوظها في السلطة، بناء على تبعية مبرمة، ” للحليف الالزامي”. ولا مرة ابداً، كان الحل لبنانيا. لبنان، بلد مباع. تتكلف الطوائفية بهندسة الحصص، حتى يرضى “الحلفاء” الذين يزينون السياسة اللبنانية، بأزياء الديموقراطية، التي لا تكون ابداً على القياس… لبنان هذا، مستحيل أن يكون ديموقراطياً. الطائفية والديموقراطية، عدوان حميمان. طبعاً، لا أحد يتحدث عن الخيانات. خيانات للدستور والقوانين والحرية والصدق والاستقامة. السبب، أن الطوائفية، حازت على صكوك ملكية مبرمة. هذا اللبنان، ليس إلا للطوائف. فلا بأس إذا، من السعي إلى الاتفاق بسرعة، على سلام الطوائف، و”على الشعب السلام”.
وعليه، لم يعط المتحاربون إلا ما يستحقون. بعد “ثورة ال 58″، أعطي السنة ما يطمحون. وبعد ” الحرب اللبنانية الكبرى”، ما بين ال 75وال90، اخذت سوريا حصة الجميع، ولم يطبق اتفاق الطائف، وربما لن. واستعادت الطوائف حصصها، بالقسطاط، بعد افول الزمن السوري.
حسنا، ليكن اليوم كالأمس. لدى الطوائف المتخمة والجشعة، فرصة ايجاد تسوية، ولو عرجاء، بانتظار التسويات الكبرى، التي بدأت تدب وبسرعة، بين ال 5 زائد واحد، وبين ايران النووية، وبين السعودية وايران في اليمن ، وبين عرب التطبيع المتكاثرين واسرائيل، وبين أطراف المعارضة السورية والنظام، وبين القوى العراقية التي تفاجأت بالنتائج، فانقض الخاسرون على اتهام الصناديق بالتزوير، وهذه عادة لدى الدول المتخلفة، ببناها واحزابها وطوائفها…
وبانتظار ما بعد اوكرانيا، وما ستسفر عنه الأحلاف الغربية لمحاصرة الصين ومحاربة سياساتها السلعية… وبانتظار ما ستسفر عنه التغيرات في الموازين، بإمكان اللبنانيين، قبل الانتخابات، او بعدها مباشرة، الدعوة إلى عقد حوار طائفي، بين الطوائف، واعادة توزيع الحصص، بشرط مسبق اولا، يتيح لكل طائفة أن تعقد مع حليفها الاقليمي او الدولي، وبواجب عدم نقل الصراعات الجارية ميدانيا إلى لبنان… أي، تحاربوا اينما تشاؤون، تخندقوا حيث تريدون، بشرط أن لا تشعل نيرانكم الداخل اللبناني. إذا، فلتأخذ كل طائفة حصتها ولتختر ” حلفاءها”، على الا تطلق نيرانها في الداخل.
ولقد حدث ذلك ذات مرة. فإبان اندلاع العنف في سوريا، بعد يقظة الربيع العربي، اندفعت “السنية السياسية” وحلفاؤها في الداخل، إلى المشاركة، بطرق الدعم والتمويل والاعلام، وأحيانا بالمقاتلين السنة، فيما اسرعت “الشيعية السياسية”، و “حزب الله” تحديداً، إلى القتال الفعال جداً… حدث ذلك، الاعلام انقسم بين مؤيد للنظام وبين مؤيد للمعارضة المسلحة، من دون أن ينقل الطرفان حربيهما إلى “الربوع الطائفية” في لبنان.
نال لبنان حصته الضئيلة ولكن الموجعة، من العنف في سوريا. انفجرت سيارات مفخخة في مناطق سنية (طرابلس) وفي مناطق تواجد “حزب الله”، في عقر داره في الضاحية، وفي قراه التي كانت على تماس جغرافي مع متطرفي “النصرة” و “القاعدة”.
تجربة، يمكن تكرارها: اشتباك دام في الخارج، ومصافحة في الداخل، ثم، الجلوس معاً في الحكومة والمجلس و … في اللوائح الانتخابية. لبنان هذا معتاد أن تكون انتخاباته مسمومة وسامة، فلا برامج ولا سياسات… فقط، شد العصب الطائفي إلى حدود ما قبل الانفجار.
تأخرت القوى اللبنانية الطائفية كثيراً. انهار الاقتصاد. اختنقت الليرة، تطايرت الاسعار، افتقر الناس، أفلس مصرفه، واحتالت مصارفه، الناس فقدوا التنفس. عبء الجوع والمرض والدواء. يستحيل التخلص منه… لبنان أفلس، ولكن لم يحضر الدائنون بعد. ينتظر صندوق النقد الدولي وصناديق ” الاشقاء الخليجيين” المقفلة…
ساسة لبنان، لن ينجبوا حلولاً ابداً لمعالجة الانهيار الكبير والمبرم، ولكن، بإمكانهم أن يتفقوا على حلول جزئية: فليفصل بين هموم الداخل الداهمة والمؤلمة، وبين مشكلات التحالفات مع “الاصدقاء” هنا، ومع “الاعداء” هناك.
هل تستطيعون ذلك؟
اطلبوا اذنا من شركائكم في الخارج، كي تلتفوا على “كلمة عرجاء موحدة” لا على “كلمة سواء” مستحيلة.
هل الحوار مجدٍ؟
انه مجدٍ، بشرط ألا يكون المطلوب، اقناع كل طرف لخصمه، بما يستحيل قبوله.
هل تعرفون بعضكم بعضاً؟ الإعلام المستنفر والمستفز لا يأخذ بعين الاعتبار الفروقات الحاسمة والاساسية بين الفرقاء. تاريخ الطوائف في لبنان، ليس عابراً. الطوائف راسخة وذات سلالة متصلة بالتاريخ واحداثه… الموارنة، منذ نشأة الكيان، وفي كل حقب استقلاله، ظهرهم للعرب ووجههم للغرب. انهم يجدون في الغرب ملاذاً آمنا وفاعلاً ومشاركاً.. الشيعة دخلوا راهنا، يقومون بدور ازاء فلسطين، كما كان السنة من زمن قريب، تخلوا عنه في ما بعد، حماة القضية الفلسطينية وحاضنتها في بيروت… تاريخ الطوائف في لبنان، وبنية معتقداتهم، لا تترك لهم مجالاً للتآخي الوطني، لذا، المطلوب دائماً، البحث عن صفقة، ترضي جميع الاطراف، ضمن الحدود الدنيا، او الادنى.
التعويل على الانتخابات والتغيير عبث: “هذا حصرم رأيته في حلب”. نصيحة: “في العجلة السلامة، وفي التأني ندامة”.
استعجلوا يا ارباب الطوائف. أنقذونا منكم. اتفقوا على زغل، كما هي عادتكم. نحن نتعهد بأن لا نحلم ابداً، ونعدكم بأننا سننصرف إلى معالجة انهياراتكم باللعنات فقط. لا قبضات لدينا لنوجهه إلى مواقعكم.
من قال إن اليأس عاقر.
أن يأسنا منكم يدفعنا إلى نتخلى عنكم نهائياً. فقط، نريد أن نحيا بسلام. سنأكل خبزنا بعرق جبيننا، إذا تركتم لنا أرغفة.
عذراً من الذين يحلمون. من الذين يزرعون الأمل. من الذين طلقوا اليأس، من الذين سينتخبون، من الذين ما زالوا يراهنون، على وطن، علماني، ديموقراطي، يكفل المواطنة ويقدسها… عذراً إذا كنتُ أفكر بصوت عالٍ. لقد حملت وهماً كبيراً، وفوجئت في السبعين من عمري، أن احلامي كانت سدى. سأبحث عن حائط أسر اليه بأخطائي. الجدار صديق لا يسمع.