بدل توزيع الخسائر، اختارت السلطة في لبنان، تخصيص الخسائر. حصة اللبنانيين الغلابى، الرضوخ للأسوأ. لا ينتظر من هذه الحكومة، أو غيرها، إلا تعاظم المأساة ومراكمة أوهام “الانتعاش والمساعدات”. لا مكان لصيغة انقاذيه، مؤقتة أو قريبة. على “الشعب” أن يعتاد على ما دون التقشف. المصارف الناهبة، معفاة من أي واجب، يعيد الأموال إلى أصحابها. لم يكن اللبناني فقيراً أبداً. طبعاً في لبنان فقراء، ولكن إفقار الطبقة الوسطى من ألفها الى يائها، هو نتاج مكننة السرقة بينها وبين الحكومات والزعامات التي تولت أن تقوم بدور الجراد. إذا: لن تُعاد أموال الناس للناس. حصتهم القهر والندم واعتياد الإنفاق بالتقتير.
الحديث عن تدفقات مالية مبالغ فيه. سيعيش اللبناني على حافتي الهجرة والفاقة. سيقتصد كثيراً، ولكن كيف يوفر المال للاستشفاء والدواء والغذاء والكتاب والمحروقات؟ الصناديق الضامنة أفرغت. البنوك أقفلت نوافذها الشحيحة… و”الدول المانحة” تطالب بإصلاحات جذرية، وفق جداول معروفة وأوامر متوفرة، لتحرير الاقتصاد وبيع ما يملكه لبنان المهذب من أرصدة أملاكه. سيبيعون لبنان، ولن تكون حصة اللبناني سوى الارتهان. واللبناني، بعدما أهين وتم تشليحه ماله وتعبه ومدخراته وآماله، لم يعد يتطلع إلى السؤال: “أي لبنان نريد؟” أو إلى السؤال: “أي اقتصاد نريد”. إنه يريد الخلاص بالتي هي أسوأ او أحسن، سيَّان.
هذا ما أوصلتم إليه اللبنانيين، يا “أولاد الأفاعي”.
غداً، ليس يوم آخر. غداً، يوم أسوأ. ارتفاع الأسعار الجنوني، يدفع اللبناني إلى الكفر والسرقة والقهر والذل. زالت الطبقة الوسطى. أُفقرت. الفقراء، موزعون على الإعاشات المذلة والبطاقة التي لا تسد رمق أسبوع واحد.
إذا ماذا؟ الحكومة تراهن على المساعدات. ستقرع كل الأبواب. أبواب ” الأصدقاء”، (لا أحد يعرف من هم أصدقاء لبنان عن جد) وهي مستعدة لارتكاب الإرتهان للخارج، بغض نظر إلزامي عن الصراع الصامت راهنا، بين محوري الغرب و”العرب”، وبين إيران. الهدنة الراهنة هشة. أمنت الشكل الحكومي، أما الخيارات السياسية التي لا بد منها. فلم يحن أوانها بعد… إنما، سيأتي زمن الاستحقاق في ما بعد.
رأسا الحربة، الولايات المتحدة الأميركية وإيران. هدنة العدوين تأمنت بعد حسابات الخسائر الاميركية، إذا انهار لبنان. إيران مستعدة ومؤهلة وراغبة في استمرار دعمها لمحورها، إذا انهار لبنان. و”لحزب الله” تحديداً، وقد تذهب إلى أبعد من ذلك. وهذا ما يجعل مناورة أميركا ضيقة المساحة وملزمة بالتراجع خطوات، كي لا يسقط لبنان إلى نصفين: نصف يستقوي بإيران، ونصف تضعفه أميركا.
العبور من هذه البقعة “المتسالمة” بلا مصالحة، والتي تمثلها هذه الحكومة، ينتظر موعد الإنتخابات النيابية والرئاسية. إذا هي مرحلة هدنة، إلى موعد الحسم الإنتخابي. تراهن أميركا، على تحسين أحصنتها في الداخل ستغدق وعوداً وتملي الأوامر. عينها على السؤال الذي لا سؤال أهم منه لأميركا: أي لبنان تريد أميركا، في جوار “إسرائيل”. طبعاً، لا تريد لبنان المقاوم أبداً. “حزب الله” السياسي… لا يمكن أن تتهاون أميركا، مع “لبنان المقاومة”، وإسرائيل تحقق إنجازات التطبيع من المحيط إلى الخليج… غير أن هذا الحلم صعب التحقيق. إنه كابوس مقلق جداً: سوريا تتعافى قريباً. إيران قد تصافح وتوقع مع واشنطن. ما له علاقة بالحلف النووي، إيران تزداد قوة في شتى المجالات. ستصبح دولة عظمى إقليمية، تشارك في صياغة إقليم يصالحها ولا يعاديها… كل هذا سينعكس على لبنان، بحيث تأتي الإنتخابات على غير ما تشتهي أميركا، فحزب الله آمن، ومؤمن أنه قوي شعبياً، وحلفاؤه كذلك. أما خصومه، فمشتتون، ولا يتفقون إلا على خدمة أميركا، ومحاربة “حزب الله”، بالكلام والشعارات والإتهامات… وتعود حليمة إلى عادتها القديمة.
في هذه الأثناء، يكون اللبنانيون غرباء عن لبنان. لبنانهم، لا يصنعونه هم، بل يُصنع لهم. سيبقى لبنان، نصفه في الشرق حتى الثمالة، ونصفه في الغرب حتى العمالة.
وفي هذه الأثناء أيضاً. سيضاعف اللبنانيون من أحقادهم. الحقد الطائفي مزمن، وكلف لبنان عدداً من الفتن والحروب والتدمير. يتساءل المرء، كيف تتجدد الأحقاد المزمنة وتصبح عقائد. كأن اللبنانيين مصرون على أن لا يتعلموا من ويلاتهم. كان لا بد لأحد أن يقنعهم، أن لا دولة ولا وطن ولا تعايش، في ظل انقسامات ترسخت حتى أضحت سياسة. علماً، أن لبنان لم يذق طعم السياسة أبداً، كغيره من البلاد العربية. السياسة هي – البنت الشرعية للديموقراطية. عندنا صفقات بين الأعداء الأقوياء. وهذه الصفقات بحاجة إلى تدخل “حلفاء” وأوصياء من الخارج، القريب والبعيد.
أي أمل تتوقع؟
ما زال الزمن الحامل للأمل بعيداً جداً.
لذا، أختم بهذه الكلمات للفنان الراحل مخول قاصوف:
“خلص زمن الحكي
وبلّش زمن البكي”
فعلاً: إنه زمن البكاء، ولكن من أين تأتي بالدموع، بعد ما جفت العيون؟