تتسع الهوة الثقافية بين اللبنانيين مع اتساع الهوة السياسية. تتعلّق الثقافة بطريقة العيش والتفكير، وما ينتج عن ذلك من ممارسات.
في كل البلدان تتعدد الثقافات لأسباب طبقية في معظم الأحيان. فالطبقات العليا تستطيع حيازة ما تفقده الطبقات الدنيا. ما يكون واقعاً عند الأولى يكون تمنياً عند الثانية. الهوة الثقافية هي بالأحرى الانفصال الثقافي الى مجتمعين. الوضع في لبنان يميل أكثر فأكثر نحو أن يكون استقطاباً بين نمطي معيشة ونمطي تفكير، وممارسة لنوعين مختلفين من المعيشة أو بالأحرى نوعين من البارادايم الذي يختاره كل فريق أو يفرضه، ويصير هو المحرك الأول للوعي.
ليست المسألة أنك تنتقل عبر حاجز بين فريقين متنازعين بالسلاح. هو حاجز بين مجتمعين، أخذ كل منهما خيارات ثقافية مختلفة عن الآخر. هي فيدرالية اجتماعية مقصودة، كي يصير العيش سوية أمراً مستحيلاً. ليس الأمر هنا أن طبقة دنيا ضاقت بها سبل العيش، فتضطر أن تعيش بوسائل حضارية تختلف عن الطبقة العليا، لكنها تتمنى أن تصير مثلها، وتعمل من أجل ذلك، وتُعلّم أولادها من أجل أن يساهم ذلك في ارتقائهم السلم الاجتماعي. نحن مختلفون، لكننا نريد أن نكون مثلكم. ربما كانت الثورة الاجتماعية-السياسية في ذهن البعض هي من أجل نزع الامتيازات ليصير البعض مثل البعض الآخر، ولا يبقى إلا تمايز الأفراد في القدرات الشخصية. فيضم المجتمع أفراداً في دولة يكتسبون حق المواطنية فيها، وتميّز بينهم الامتيازات الاقتصادية، حيث تستغل الطبقة العليا كل الطبقات الأدنى منها.
حتى التحالفات السياسية لا تعكس تشابهات اجتماعية. هي تقتصر على تفاهمات سطحية بين أكباش الطوائف، لا همّ لهم إلا التعاون مع أي كان في الخارج والداخل من أجل السلطة، أو بالأحرى تفاسم السلطة. حتى تقاسم السلطة يبقى مؤقتاً، إذ أن فريقاً يريد السلطة كلها له، وفريق يحاول الحفاظ على ما ورثه من مواقع السلطة وما وعده به الدستور. تحالفات أساسها الرغبة الدفينة عند كل فريق في التحالف لاقتلاع الآخر. تحالفات ليس أساسها التسويات التي يتنازل أطرافها عن جزء مما يعتقدونه حقهم من أجل الالتقاء مع الأطراف الأخرى في التحالف، وذلك من أجل العيش سوية، بل هي تحالفات بين زعماء أهدافها مؤقتة، ينتظر كل فريق انتفاء الحاجة إليها من أجل اقتلاع الآخر.
ليس العيش سوية هو ما يهم المتحالفين، بل هو العكس تماماً. تحالفات كل منها يهدف الفرقاء فيها، كل منهم، الى عدم العيش سوية. الهوة الاجتماعية في طرق العيش، وفي الآمال والتوقعات، تعكس نمطاً جديداً من الحياة السياسية في لبنان. نمط يرتكز على معتقدات دينية، ويفترض وجداناً لكل واحد من أصحابه تتعدى متطلباته الفيدرالية أو البقاء في وطن واحد، إن لم نقل دولة واحدة. أو فلنقل صار بقاء الدولة مرهوناً بسيطرة فريق على السلطة سيطرة كاملة. سيطرة ليست تعبيراً عن وحدة العيش، بل سيطرة الأوهام الدينية والطائفية. هي أوهام ليس بمعنى أنها كاذبة وغير واقعية بل أوهام تبدأ ايديولوجياً، وتتطوّر الى صياغة واقع جديد. هي مبارزة من نوع جديد. لكنها مبارزة ليس فيها أفكار مختلفة حول هدف واحد، بل تختلف فيها الأهداف والتمنيات. وهذا الاختلاف في الأهداف والتمنيات يفترض اختلافا قسريا أو رضائياً حول أنماط العيش والأنماط الثقافية. قطع السير على هذا الطريق شوطاً طويلاً. صار من الصعب ردم الهوة. لم تعد المسألة تتعلّقبصراع سياسي من أجل السلطة وحدها، بل بطلاق ثقافي كامل، لا يمكن الحفاظ معه على الدولة إلا بسيطرة كاملة لفريق على آخر، أو تشكيل أمتين أو أكثر متجاورتين. حتى لو بقي الفريقان أو بقوا في دولة واحدة، تكون العلاقات أشبه بالديبلوماسية بين غرباء.
الذين يعارضون الفيدرالية، ولا أحد بريء منها، لا يدركون أن الهوة الاجتماعية السياسية تخطت إمكانية رتق ما تمزّق. حتى الحرب الأهلية التي دامت 15 سنة لم تحدث الفجوة الاجتماعية التي نشهدها الآن. كان اتفاق الطائف أمراً سياسياً أدى الى ازدهار ما بعده. حصلت ثورة 17 تشرين حين حاول أكباش الطوائف التلاعب بمعيشة الناس، وإثارة شعارات طائفية للتخويف والترهيب. ثم استُخدِمت المصارف لسرقة ودائع اللبنانيين، خاصة الطبقة الوسطى منهم، لتجريدها من القدرة على مواجهة النظام. نجحوا في ذلك. وإذا كانوا يريدون إعادة تركيب البلد على الأسس التي ترضيهم، فإنهم يعتبرون أنهم نجحوا. فقد انهارت أجهزة النظام، ولم يبق إلا الجيش متماسكاً. وهو يبدو كذلك بدعم خارجي واضح.
إن المواجهة الآن بين رافضي الفيدرالية والاستقطاب الثقافي، وهم أكثرية سكان لبنان، وبين دعاة الفيدرالية، ولا بد للقوى العسكرية أن تقف بجانب الرافضين، في مواجهة منظومة سياسية استخدمت جميع أنواع الترهيب للإفقار والتجويع، وحتى قمع الحريات.
إن الصراع في لبنان ليس حول المقاومة ومستلزماتها، بل حول المنحى الثقافي الذي سوف يتخذه لبنان. إضعاف الشعب اللبناني وشل قوته في سبيل انتصار مد التقوقع الثقافي بشكليه المسيحي والإسلامي، السني والشيعي، قد أظهر علامات الفشل؛ فقدوم المهاجرين بدولاراتهم يساهم في انتصار المد الانفتاحي الذي يرحب به جميع اللبنانيين. صار المغتربون حاجة ثقافية للبنان بعد أن حاولت وسائل الإعلام أن تظهرهم وكأنهم حاجة اقتصادية محضة.
من حسن حظ لبنان أن القوى الأمنية والعسكرية، وإن لعبت على التوازنات بين القوى، ما زالت الدعامة لقوى الانفتاح. المجتمع الذي أُحْبط بجميع وسائل التقوقع، تفلّت من قبضة المتقوقعين الفيدراليين. والصيف يبشر بمزيد من الاحتفالات والمهرجانات، بينما نرى المتقوقعين مزروبين في بيوتهم.
سيكتشف المتقوقعون أن لبنان ليس مضغة يمكن ابتلاعها، وسيكتشف الفيدراليون أنهم أضعف من تحقيق أوهامهم. شبح 17 تشرين يخيّم فوق هؤلاء جميعهم.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق