يكثر الكلام حول الفيدرالية في هذه الأيام. لبنان هو في الأساس، ومنذ أن أنشئ، فيدرالية طوائف، لكنه كان فضاء إدارياً واحداً. تريد بعض الطوائف أن تجعل منه عدة فضاءات إدارية. لكل طائفة إدارتها ذات مجتمع منغلق، وكما يقول البعض، يتظهّر فيه “الوجدان” الطائفي. وقد استخدم هذا التعبير أحد عتاة الدعوة الى الفيدرالية. ولا تجتمع الطوائف-الأقوام إلا في مسائل تتعلق بالسياسة الخارجية. وربما العملة الموحدة.
يمكنك في هذه الحالة أن تكون أي شيء إلا مواطناً لبنانياً. المواطنة تفترض الدولة والوجدان الموحد، وانفتاح “المجتمعات” و”الطوائف” و”الكانتونات” على بعضها.
اللامركزية الإدارية متحققة في لبنان، سواء كانت دولة مركزية أو لا مركزية. كل الأجزاء مرتبطة ببعضها بواسطة الانترنت. وستكون أكثر ربطاً وارتباطاً. لكن الذي لا يمكن أن يكون فيدرالياً هو الوجدان، بمعنى أن العيش سوية أصبح مستحيلاً، وقد أدت ثورة تشرين 2019 الى وجدان واحد وهوية فوق الهويات الطائفية. وصار من لم يكن فخوراً بالعلم اللبناني، أي بالانتماء الى وطن اسمه لبنان، فخوراً برفع هذا العلم وحمله في وجه السلطة الطائفية، وفي وجه تعدد الوجدانات.
في فيلم “انسايدر”، وفي جلسة استماع في ولاية ميسيسيبي الأميركية، قال المحامي الموكل ضد شركات التبغ لأحد موكلي الشركات الوافد من ولاية كنتاكي، عندما ابتسم هذا الأخير في وجهه ابتسامة سخرية، “إمسح هذه الإبتسامة عن وجهك، فأنت في ولاية ميسيسيبي ذات السيادة”. المشكلة عندهم ليست في الفيدرالية بل في تعدد الوجدانات بين السود والبيض، وبين الإثنيات الملونة ضد البيض. هذا التعدد يزج الولايات المتحدة في انقسامات، وفوضى، وأعمال عنف، تنم عن إنقسامات عميقة في المجتمع الأميركي.
الفيدرالية ليست عيباً. ربما كانت الدول الفيدرالية أكثر استقراراً من الدول المركزية (سويسرا مثلاً). تعدد الوجدانات هو العيب، لأنه يعني أن في نهاية الأمر لا يمكن العيش سوية. كانت ثورة تشرين مخيفة بالنسبة للنظام الطائفي. فعاقبوا بعد ذلك المجتمع اللبناني، وصولاً الى تشليح الناس مدخراتهم المودعة في المصارف على طريق إفقارهم، وجعل أسباب المعيشة صعبة عليهم. لا ننسى الهتافات الطائفية لدب الذعر في قلوب المتظاهرين. وهي كانت صادرة عمن يتمتع بفائض القوة لدى واحدة من الطوائف. وجدت الطائفية عند أصحاب تعدد الوجدانات في الهوية الواحدة فوق الهويات خطراً عليها..
الفيدرالية ليست الحل. الحل يكون في السياسة. في أن نتغلب على وجداننا المكبوت في سبيل وجدان واحد، مهما كانت الصيغ الإدارية. النظام المركزي أسوأ الأنظمة. جميع الأنظمة المركزية في بلدان مصنفة مثل بلدنا تعاني حروبا أهلية في الداخل. والسياسة هي في الحوار والنقاش، على أن يصدر ذلك عن أطراف العملية الديموقراطية. ليست السياسة “عملية تفاوض” حول مرشح واحد يطرحه قسراً طرف واحد. لقد أغلق المجلس النيابي لأكثر من عامين في العقد الماضي حتى ينضج “الحل” التفاوضي، مثلما حصل عند مجيء ميشال عون رئيساً. والآن يغلق المجلس النيابي لأسباب مشابهة. أولئك يريدون تفكيك الدولة، وهؤلاء يريدون إلغاء الدولة.
مهما قيل في التفاوض، وفي طلب حسن النيات عند الرئيس المقبل كي لا يطعن في الظهر (أي يكون موالياً لصاحب القول)، إلا أن إغلاق المجلس النيابي هو إلغاء كامل للسياسة، كمن يقول للآخرين: إما أن تشتغلوا عندي وتقبلون “تفاوضي” حول مرشحي الوحيد، وإما لا انتخاب ولا نصاب للدولة. غير مفهوم هذا الإرتياح لتعطيل نصاب الدولة إلا بافتراض نوايا لا تبعث على الارتياح. السياسة هي في السعي الجدي الدؤوب للوصول الى تسوية أو تسويات مع الذين لا يوافقون الرأي. السياسة هي تراكم التسويات، ولا تكون أبداً في عرض إما أن يأخذ به الآخرون أو يخرجون من فضاء السلطة.
فريقا السلطة وجهان لعملة واحدة. كل منهما يُعبّر عن وجدان دون الآخرين، سواء كان الوجدان مكبوتاً أو ظاهراً. إن مسألة الدولة ليست تقنية تتعلّق بشكل النظام، فيدرالياً كان أم مركزياً أم لا مركزياً، وديموقراطياً كان أم غير ديموقراطي. هل يُراد أن تكون لنا دولة، وهل يُراد أن تكون أعلى من أي تشكيل اجتماعي، طائفياً كان أم علمانياً أو أي شيء آخر؟
يتعلّق الأمر بالدولة غير المشروطة، أي أن تكون شرطاً لما عداها مهما كانت حصة أي طائفة فيها. ليست الدولة من أجل الطوائف، بل هذه الطوائف من أجل الدولة التي لا تكون إلا بوجدان واحد موحد عند جميع سكانها؛ وجدان يعلو ويحكم كل الوجدانات الأخرى. الدولة شرط لما عداها ولا شرط عليها. هي المطلق الوحيد في الحياة اليومية والسياسية. دعاة الاتحاد الفيدرالي شيء واحد، والوفاء للمقاومة شيء واحد. كل منهما يريد تكريس الدولة (الوطن) كما يعتقده صحيحاً. وفي النهاية تكريس هذا الوطن لأصحاب هذا الرأي أو ذاك، بالأحرى أصحاب هذا الوجدان أو ذاك. تريدون أن تكون الدولة اطاراً ناظماً للجميع أم تريدونها إطاراً لنظام الطوائف، كل منها جزء من الوطن، والوطن مكرس للطائفية؟
ليست المسألة أن تسعى كل طائفة لكي تكون بخير، وتتمنى الخير للآخرين، وإذا أصابهم شر ما فلا بأس عليهم، بل هي مسألة المواطنة في أن يكون كل فرد عضوا في الوطن قبل الطائفة، وأن تكون للدولة أولوية على الطائفة، وللانتماء للدولة أولوية على كل حصة الطائفة من النظام ومنافعه.
اتحاديون نعم، فيدراليون نعم، لا مركزيون نعم، وفاء للمقاومة نعم، شرط أن تكون الدولة منغرزة في ضمير كل منكم، وأن يكون السعي لها مطلقاً في كل مكان وزمان. فلا يتعطّل البرلمان والقضاء وبقية أجهزة النظام، بانتظار أن تتطابق الدولة مع وجهة نظر فريق أو فرقاء منا، وبالتالي انتخاب رئيس جمهورية، كائناً من كان، أولوية على مواصفات يضعها له هذا الفريق أو ذاك. الدولة تعني إرادة من فيها بالعيش سوية مهما كانت الظروف، وأن تجري الانتخابات الرئاسية كل ست سنوات مهما كانت الظروف والنتائج.
القول بالفيدرالية التي تعكس وجدان واحدة من الطوائف هو انعكاس للتعطيل البرلماني بما يجره من تعطيل للدولة. ومن لا يريد الدولة إلا انعكاساً لوجدانه هو كمن يلغي الدولة. كلاهما يضع الناس في لبنان أمام خيار بين الدولة والفوضى، وبين العيش سوية والتقوقع في مجتمعات مغلقة، وبين الوجود واللاوجود لمجتمع أصبح شعبه في الهاوية، لا على شفيرها. كل “تأجيل” لانتخاب رئيس للجمهورية هو إهانة للناس، تضاف الى تعتيرهم وإفقارهم وإيصالهم الى دركات الجوع الذي يجعل من كل وطنية أمرا زائفاً.
لا يغرننا امتلاء المقاهي والمطاعم بزبائن من طبقة جديدة تنمو عادة في اطار حرب أو حرب أهلية. ألا يرى ذلك أصحاب العقد والحل؟ أم أن هناك ما يحجب النظر عن بصائرهم؟ أم أنهم، كلهم أو بعضهم، لا يريدون الدولة بالأساس؟ الصراحة تقضي بمواجهة الجميع بحقيقة أن في بعض أهل الحل والعقد من يدعي ان طائفتهم أسست لبنان عام 1920، وهناك فيمن لم يساهم في تأسيس لبنان من لا يعتبر الدولة ضرورة. وهؤلاء وأولئك لا يريدون دولة إلا أن تكون على صورتهم. يسيطر عليهم منطق “أنا أو لا أحد”. وهؤلاء وأولئك هم مأزق لبنان الحالي.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق