من بيروت حيث يشتد الجدل البيزنطي حول »جنس« القانون الجديد للانتخابات النيابية المقبلة المفتوح على المصادفات والمفاجآت والتواطؤ والتحايل على الناخبين حتى لا يأتي المجلس ممثلاً لأفكارهم وعواطفهم ومصالحهم وأحقادهم وحساسياتهم، تبدو الانتخابات المقررة في إسرائيل يوم الاثنين المقبل مثيرة لمكامن الشجن محليا وعربيا..
ففي حين لا يعرف اللبنانيون بعد كيف وأين سينتخبون، ووفق أية قاعدة (أكثرية أم نسبية) وعلى مستوى أي نطاق جغرافي (قضاء أم محافظة أم لبنان دائرة واحدة)، وهل يكون النواب نوعين (باب أول على مستوى كل لبنان وباب ثاني على مستوى الجهة) أم نوعاً واحداً كالذي خبرناه وعرفناه محمولاً في »بوسطة« أو ممهدة طريقه ب»المحدلة«..
… فإن الإسرائيليين سيتوجهون بعد أسبوع ليختاروا رئيس حكومتهم ونوابهم من بين ثلاثين حزبا سياسيا ودينيا تتضاءل الفروق بينها أحيانا حتى تكاد تمحي، وتتعاظم حتى لتصير أقرب إلى المخاصمة إذ تستند إلى »منابت« الناخبين ومصادر استقدامهم و»قومياتهم« السابقة، ناهيك بالتمايزات والتنافر بين »المتدينين« و»العلمانيين« وموقع كل فريق على خريطة إسرائيل الكبرى أو العظمى أو القوية والتي في جميع الحالات قادرة على إلحاق الهزيمة بالعرب، جميعهم، اليوم وغدا.
أما الفلسطينيون فقد قدمت قيادتهم نماذج للديموقراطية غير مألوفة وغير مسبوقة في أي مكان أو زمان، إذ هي تستدعي »النواب« و»المجلس التشريعي« و»المجلس المركزي« و»المجلس الحربي؟!«، كلما دُفعت أو استهواها تفريط ما بالحقوق في الأرض أو بشروط الحياة فوقها…
هكذا وبأسلوب نادر في ديموقراطيته »يصوِّت« النواب وقوفاً (وظهرهم الى الحائط وفي مواجهتهم الرئيس الأميركي بيل كلينتون) على تشطيب وتشطير الميثاق الوطني الفلسطيني بحيث يغدو أشبه بالكلمات المتقاطعة أو بنص موعظة بنبذ العنف أو بوصية رجل ميت يدعو ابنه الى طاعة ولي الأمر حتى لا يُغضب الله فيشرّده في الأرض ويعذبه عذابا أليما!
ثم بالأسلوب الديموقراطي نفسه يستنفر عرفات »النواب« الى اجتماع تاريخي لإعلان »الدولة« في الموعد المقرر (نظريا) أي في 4 أيار 1999، وسط حملة إعلامية هائلة كالتي تروّج لأزياء موسم الصيف، أو أزياء البحر، أو مستحضرات تضخيم الصدور والشفاه، وبينما العالم »يحبس« أنفاسه ترقبا للحدث العظيم يخرج المجلس بقرار ديموقراطي مجيد مفاده: ان ياسر عرفات هو الدولة والدولة هو، ومن ثم فالإعلان لا مبرّر له، بل ان النطق به قد يسيء إلى الديموقراطية، ولا بأس من صرف النظر عنه لكي تنمو شجرة الديموقراطية وتثمر..
ليس كالانتخابات في إسرائيل إثارة للشجن، محليا وعربيا،
الغاصب، الظالم، محتل الأرض، منتهك الكرامة، الطاغية، الجبار، محطم عظام الأطفال ومرتكب المجازر أمس واليوم وغدا، العنصري حتى العظم، ناسف البيوت، والسفاح بامتياز، يقدم نفسه إلى العالم في صورته الداخلية كأحد نماذج الديموقراطية، ودائما على قاعدة »شعب الله المختار«!
وعشية الانتخابات الإسرائيلية، يتجند العالم كله لحماية »الديموقراطية« فتتوالى النصائح الأميركية السامية بضرورة ضبط النفس، وانتظار النتائج، ومن ثم التعامل معها بإيجابية، لعل »السلام« يجيء محمولاً على جناحها… ذت يوم!
أما المواطن العربي فيتابعها، مضطرا، بقلق جدي لأنها قد تقرر بعضاً من مصيره، وقد تغيِّر الكثير من وقائع حياته ومشروعاته لمستقبله.
إن »الناخب الإسرائيلي« يكاد يقرِّر في مختلف أقطارهم!
والقاعدة ثابتة: بنسبة تطرف هذا الناخب الممتاز يقترب »السلام« أو يبتعد!
ومع أن أبرز المرشحين القياديين هم من »العسكر« فإنهم يصيرون بملابسهم المدنية نماذج راقية عالميا للديموقراطية والإيمان بحقوق الإنسان، حتى وهم يعترفون ببطولاتهم في تنفيذ عمليات الاغتيال، أو يحاولون التبرؤ من المسؤولية المباشرة عن مجازر ارتكبت »خطأ«،
تكاد الصورة أن تكون كاريكاتورية: شروط حياتك مرتبطة بمزاج »الناخب« الإسرائيلي، أن تعكر فربما قتلك أو طردك من أرضك، وإن هو هدأ فقد يسمح لك بأن تكون عبدا رقيقا (كالفلسطيني في الداخل) أو مجرد مستهلك، وفي كل الحالات مجرد تابع يدور في فلك هيمنته ولا يخرج منها أو عليها (كالعربي في كل أرضه).
وبمعزل عن »النصائح« التي قدمها ويقدمها بعض المسؤولين العرب للناخبين الإسرائيليين المستقدمين من أقطار عربية، فإن رحى المعركة الانتخابية في إسرائيل تدور في غياب شبه مطلق للعرب الذين يبدون أضعف حضورا من أن يستطيعوا التأثير سلبا أو إيجابا،
بل انهم في الحالين هم المتأثرون..
وعلى عكس معركة 1996 التي توّجها شيمون بيريز بالاجتياح الناري للبنان الذي بلغ ذروته في مجزرة قانا، فإن »الصوت الفلسطيني« الذي بولغ في تقدير وزنه إلى حد استفزاز الإسرائيليين قبل ثلاث سنوات، يبدو الآن أقل قدرة على التأثير نتيجة لتهالك »السلطة« الذي أخرجها تماما من حومة الصراع الداخلي في الكيان الصهيوني، تحت قيادة »المتطرف« أكثر بنيامين نتنياهو، والذي استبكر الموعد قبل أن يبهت تطرفه بالمقارنة مع منافسيه »العسكريين«.
ومجمل التنازلات والتراجعات التي تورطت في ارتكابها سلطة عرفات حولت هذا الصوت من رصيد يمكن الإفادة منه كقوة ضغط، إلى ما يشبه السلاح الفاسد في حرب 1948 الذي كان يقتل جنود الجيش المصري، إذ يرتد رصاصه إليهم بدلاً من أن يتجه إلى صدور أعدائهم المدججين بأحدث السلاح وأفضله.
على هذا يمكن لإسرائيل أن تمارس ترف التغيير الديموقراطي بين المتطرف والأكثر تطرفا وبالعكس، بغير أن تتخوف من أن يشاغب عليها القطيع العربي الذي لا يعرف الديموقراطية ولا يعترف بها إلا كميزة تفوق لعدوه.
ويمكن لبنيامين نتنياهو أن يبارز يهودا بارك والعكس بالعكس في ادعاء القدرة على انتزاع المزيد من التنازلات الفلسطينية (والعربية استطرادا) وفي تصنيف ذاته »الأقوى« أو »الأقدر« على بناء »إسرائيل القوية« والأعظم نفوذاً في العالم كله، بشرقه وغربه، بما في ذلك الدول الاشتراكية سابقا والدول الإسلامية دائماً ومعها العديد من الدول العربية.
المزايدة الإسرائيلية تنتصر مرة أخرى، وبين أسلحتها الآن المناقصة الفلسطينية، خاصة، والعربية عموما،
فإذا كان نتنياهو قد أخذ على أسلافه من قادة حزب العمل (اسحق رابين ثم شيمون بيريز) انهم قد تنازلوا بالتوقيع على اتفاق أوسلو، فهو الآن يستطيع التباهي أنه قد »أسقط« ذلك الاتفاق وتحلل من التزاماته، وجعل التواريخ المحددة لمراحل التنفيذ، وبالذات ما يتصل بالمرحلة النهائية، في خبر كان، ومعها الاتفاق التفصيلي الذي »أجبر« على توقيعه هو بالذات في مزرعة »واي« كترضية شكلية للرئيس الأميركي بيل كلينتون وبقصد مساعدته على تخطي محنته الشخصية مع محظيته في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي.
العنصريون ديموقراطيون، حتى لو كانوا في أقصى التطرف سياسيا ودينيا،
والعرب خارج نعيم الديموقراطية، وبالكاد يتعرفون إلى العملية الانتخابية، بل توفد إليهم واشنطن من يعلّمهم كيف يُسقطون الأوراق في الصندوقة المثقوبة السطح والمحكمة الإغلاق عند قعرها!
وليس علينا هذه الأيام سوى أن ننتظر لنرى من ترفع الديموقراطية إلى موقع القرار غداً في إسرائيل، المتطرف أم الأكثر تطرفا، فربما بعد ذلك نعرف ماذا يُراد بنا أو يدبر لنا.
… وفي بيروت نواصل الفرجة على مسلسل الملفات المفتوحة، والثرثرة حول قانون الانتخاب وهل يكون عموديا أم أفقيا والدوائر وهل تكون بالطول أم بالعرض، ثم التشكي من حالة الخواء السياسي والركود الاقتصادي والضائقة المعيشية.
ثم نقول إن لبنان هو النموذج المؤهل لإلحاق الهزيمة بإسرائيل، حضاريا وثقافيا واقتصاديا… فنرتاح ونغفو هانئين!