طوى رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق الدكتور سليم الحص يوم الجمعة 20 ديسمبر/ كانون الأول 2019 عقده الثمانيني وبدأ العقد التسعيني غير مشارك بالحيوية الفكرية والنصح بالإنتفاضة التي عندما بدأت يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 كان في وضع صحي دقيق إستوجب لاحقاً معالجة جراحية وإقتسام الإقامة على سريريْن أحدهما في شقته المتواضعة والآخر في مستشفى الجامعة الأميركية يلازمه الحفيد الطبيب “سليم” من وحيدته وداد.
وعدم المشاركة في الإنتفاضة متابعة ونصحاً لرموز النُخَب وتسجيل مواقف عبْر الصحف والفضائيات تجعله لا يواكب نتاج شتلات غرسها قبل سنوات في حقل الدولة المجدب، كونه وهو الذي جاء إلى رئاسة الحكومة من تجربة مصرفية ثرية وإحاطة بالسلبيات التي يراها دون الآخرين وبالعين المجردة من يقف على رأس الحالة المالية في الدولة ونعني بذلك حاكم المصرف المركزي، ومَن هو على دراية بالوضع المالي الخليجي (حيث عمل مستشاراً لدى الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية). والرؤية الدولية للأحوال المالية في العالم (حيث شغل رئاسة مجلس إدارة المصرف العربي والدولي للإستثمار في باريس). ومِن قبل أن يختاره الياس سركيس (الذي شغل منصب حاكم المصرف المركزي قبْل أن يولوه رئيساً للجمهورية في أكثر السنوات تعقيداً في الحرب الأهلية)، إلى جانبه كان أحاط بكل خفايا الحالة المصرفية في لبنان من خلال ترؤسه لجنة الرقابة على المصارف على مدى خمس سنوات أمكنه خلالها معالجة المضاعفات الناشئة عن سقوط “بنك إنترا” المصرف الأهم في الخمسينات وبعض الستينات في الحياة المصرفية اللبنانية، ذلك أن هذا البنك الذي عُرف ﺑ”أمبراطورية يوسف بيدس” بات جزءاً من المسارب الرسمية والشعبية في آن. بل إن يوسف بيدس المصرفي الفلسطيني حقق في لبنان زعامة ذات تأثير فوق زعامات سياسية لبنانية تكررت بعد ذلك من خلال زعامة ياسر عرفات. وفي الحالتيْن تهاوت تلك الزعامة. بداية بسقوط وربما إسقاط أمبراطورية بيدس الذي جرى ترحيله، فإنهاء أمبراطورية عرفات التي عُرفت ﺑ”دولة الفاكهاني” مقر الوجود الفلسطيني في بيروت السبعينات، كما في الزمن الراهن “دولة الضاحية الجنوبية” مقر زعامة الأمين العام ﻟ”حزب الله” حسن نصرالله.
إحاطة الدكتور سليم الحص بالأحوال المصرفية والخليجية ـ الدولية وكذلك وقوفه على أوضاع غير مكشوف عنها من خلال ترؤسه لجنة الخبراء العرب المنبثقة عن الجامعة العربية، هيأت له ما لم يتهيأ لغيره من الذين شغلوا منصب رئاسة الحكومة.. أي بما معناه إنه بات على دراية بالقليل الصالح والكثير الطالح من نظام الحُكْم ومؤسسات الدولة وكيف يسلك الفساد من دون رادع له كما كيف هي حال القضاء والقضاة ودهاليز السلطات العدلية. هذا إلى الوقوف على مفاتيح الإرتباطات التي في ضوئها تتخذ الزعامات الحزبية والمرجعيات على أنواعها المواقف وبناء العلاقات.
لم يهنأ سليم الحص طويلاً في ترؤس الحكومة غير مرة ولا ندري إن كان سيمارس دوراً إصلاحياً يتناسب مع خلاصة ما بات حاضراً في باله لو قُيض للولاية الرئاسية أن تطول. لكنه عوَّض تأدية ذلك الدور بصفة مواطن رئيس حكومة سابق، وجاء التعويض من خلال أحاديث مع زوار إنحسر عددهم بعدما لم يعد رئيساً للحكومة، وتصريحات يدلي بها في مناسبات أو من خلال مقالات يكتبها في صحف لبنانية وخليجية. ومنذ اللحظة الأُولى لتوليه المنصب الرسمي رئيساً للحكومة إرتأى النأي عن رغد العيش في “فيللا” شيدها على قطعة أرض في ضاحية قريبة من العاصمة بما جناه من عمله في الكويت ولم يسكنها سوى خلال سنتيْن من الحرب الأهلية وفضَّل العيش في شقة متواضعة من مبنى سكني عادي في حي شعبي بيروتي (عائشة بكار) طالما إستقبل في شقة بجانبها خصَّصها مكتباً له مسؤولين وسفراء عرباً وأجانب وقيادات حزبية وبذلك رأى فيه الناس رمزاً لنظافة الكف، وبات عامة الناس يذكرونه بالخير كلما إشتدت الأزمة الحكومية في لبنان ويربطون إسمه بصفة “ضمير لبنان”. ومن جانبه كان في غاية راحة البال لأنه وفي عيشه البسيط الذي إرتضاه كان إذا جاز القول يستحضر ما عايشه كمسؤول وما وقف عليه من سياسات وسلوكيات طالما تراكمت وإنتهت فساداً ونهباً للمال العام ومتاجرة بالمبادىء وإرتهاناً إلى غير. وهو في ما كتبه وما صرح به وما أدرجه في بيان يبدو كما لو أنه البادئ قبل حوالى عقديْن من الزمن بالترويج فالتبشير بالإنتفاضة الشعبية التي ما زال زيتها لم ينضب وبالتالي فإن الشعلة على ضيائها تبشر بالخير. ولطالما سمعتُ منه الكثير في هذا الشأن بحُكْم الجيرة في مبنى واحد ولقاءات معه يكون الكلام فيها عبارة عن جولة أفق بين مرجعية سياسية وإقتصادية وطنية وعروبية مقتدرة، وصحافي وكاتب يتطلع إلى إجابات حول أمور تستوجب التوضيح والتأكيد. بل إنني في مرات كثيرة وجدتُ نفسي أنني أمام داعية للثورة بنهج رموز الزمن الغابر في التاريخ العربي ثم الإسلامي بما كتبوا وكيف عاشوا. والآن ونحن ما زلنا نعيش وهج عشرة أسابيع من الإنتفاضة الشعبية أستحضر مما سبق وقاله الدكتور سليم الحص وبمفردات تحويل الشعور بالمعاناة إلى حراك لا يتوقف، القليل من كثير قاله في هذا الشأن مثل “مشكلة لبنان في فقدان روح المواطنة التي تجمع اللبنانيين على الولاء والوفاء للوطن الواحد وفي طغيان الفئوية المذهبية والطائفية و”أنجزْنا إستقلالنا عام 1943 وفشلْنا فشلاً ذريعاً في كسْب الحرية بمعانيها الأُخرى: تطوير الممارسة الديمقراطية وتحقيق الإصلاح بأبلغ معانيه، وإنجاز التنمية الاقتصادية، وتجاوز الحالة الطائفية التي جعلت من الشعب اللبناني قبائل متناحرة فاقد الإرادة الموحدة في مواجهة شتى التحديات و”السُنية السياسية على ما أعهدها مرادفة لإلتزام وحدة لبنان المجتمع والدولة، والسُنة من الفئات اللبنانية النادرة التي تجد لها حضوراً بشرياً ملحوظاً في المحافظات اللبنانية الخمس” و”القول بأن التوافق راسخ في لبنان قد ينطوي على شيء من المبالغة. وفي لبنان ما يشبه الإجماع على إستشراء العصبيات الفئوية الضيقة وإستفحال آلة الفساد في المجتمع والدولة” و”سيبقى لبنان مصاباً بفقدان المناعة، بمرض الإيدز السياسي وسيبقى تالياً معرَّضاً للتدخلات الخارجية في شؤونه الداخلية لا بل خاضعاً للوصايا الأجنبية ما دام فريسة الإنقسامات الفئوية المذهبية والطائفية” و”الوحدة الوطنية لا تعني إنعزالاً عن المحيط العربي أو إستعداء له بل إنفتاح عليه وتفاعُل إيجابي معه”.
لكن ما هو اللافت أكثر من تشخيصه للأحوال السائدة في لبنان المريض ووقَفَ عليها بحُكْم مشاركته في المسؤولية السياسية المتقدمة، هي الدعوة إلى الإنتفاضة بصيغة نداء صدر يوم 2007.9.11 (أي في مثل هذه الأيام من الإنتفاضة قبل 12 سنة) بإسم “منبر الوحدة الوطنية” أو “القوة الثالثة” التي ترأسها وتضم بعض أصحاب التجربة السياسية وكانت تعقد إجتماعاتها في مستودع أسفل المبنى حيث يسكن ما لبث أصحاب المستودع أن إستردوه وجعلوه محلاً لتجارتهم. وعند قراءة مضمون هذا البيان المعنون “دعوة للإنتفاض” وبروحية مفردات نهج “الإمام علي” وأبو ذر الغفاري وعمر بن الخطاب ومفردات النهج “الماركسي – الغيفاري- اللينيني” ومقارنة التعابير مع مطالب إنتفاضة “كلن يعني كلن” نستنتج أن الرئيس الأسبق للحكومة اللبنانية الدكتور سليم الحص المتزوج من السيدة المسيحية إبنة دير القمر ليلى فرعون هو أيضاً “ضمير الإنتفاضة”. ولأنه الأدرى ﺑ “لبنان المريض” فإنه أطلق “الدعوة للإنتفاض” مبكراً، وفي البيان الذي حوى العبارات الآتية:
“بإسم المواطن الطيب البريء.
بإسم من لم يعد يصبو إلى أكثر من العيش بسلام وأمان في جو من الاستقرار.
بإسم من لم يطمح أكثر من عيش كريم في ظل إقتصاد متدهور وبطالة مستشرية وهجرة متفاقمة ودَيْن متعاظم وغلاء مُستفحل.
بإسم من بات يفتقد الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية في وطنه. بإسم من لم يعد يطيق العيش في دولة بلا سلطة، وفي مجتمع لا يجمع بين فئاته رابط وكأنما البلد لا يأهله شعب بل قبائل.
بإسم من كفر بالحرية في بلده إذ لم يعد يستشعر إلاّ بحرية النزاع على السلطة وحرية الفساد والإفساد وحرية التسيب واللامسؤولية والفوضى لا بل وحرية الفقر والعوز والذل والهوان.
بإسم من سدَّت المماحكات والأنانيات السياسية في وجهه آفاق الأمل بغدٍ واعدٍ مشرقٍ، وضاق ذرعاً بحُكْم أمراء الحرب وهو يُراهن على السِلْم والإستقرار.
بإسم من سئم العيش في بلد أضحى فيه المسؤول غير مسؤول والنائب من النوائب والوزير من الأوزار وأضحى فيه الحُكْم تحكماً والديمقراطية عسفاً والنظام فوضى والقانون من شريعة الغاب، ولا فاصِل بين القضاء والسياسة والقاضي الشريف لا تحميه نزاهته. وينتصر الجيش في حرب ضارية مع الإرهاب، وليس مَن يدري كيف نشبت الحرب ومَن موّلها ومَن نظّمها ورعاها.
بإسم المواطن المنكوب المعذب ندين الطبقة السياسية برمتها وندعو إلى إنتفاضة يستعيد بها المواطن قراره من مغتصبيه…
“يا حبذا لو نسمع هذه الأصوات تنطلق جهورة مدوية… “.
شفى الله لبنان الوطن من أمراضه وخفف من أوجاع ضميره الذي هو أيضاً “ضمير الإنتفاضة”.