لم يعد لبنان كبلد بلا دولة يمثل حالة فريدة في هذا المشرق من دنيا العرب.
لم يعد النموذج الوحيد لدولة مستقيلة من مهماتها الطبيعية، في غياب أو تعطيل مؤسساتها الدستورية، حيث ثمة حكومة مستقيلة ولا حكومة بديلة، ومجلس نيابي يمكنه التمديد لنفسه ولكنه يمتنع عن الالتئام للبتّ في قضايا أساسية وفي مسائل جدية يعطل استمرارها معلّقةً الحكم والحكومة وبالتالي الدولة ويجعل مؤسساتها هياكل مفرغة من أي مضمون وإن استمر «قادتها» متمتعين بألقابهم المعظّمة.
يكاد المشرق العربي جميعاً يكون بلا دول فعلية..
فالدولة في سوريا تتهاوى في خضم حرب أهلية ـ دولية لا تُعرف لها نهاية واضحة ومحدّدة الأجل.. ولا أحد يستطيع التكهّن بطبيعة أحوال سوريا ما بعد هذه الحرب البلا آخر، والتي تتقاسم مناطقها وجهاتها الآن قوى مسلحة معظمها وافدة من خارجها، أما «المحلية» منها فلم تستطع تأكيد وجودها إلا بعدما توفر لها «الرعاة» في دول الخارج… وهكذا تطالعنا خريطة «قلب العروبة النابض» مشلّعة، أما مصيرها عموماً فقد بات موضوع تفاوض بالنار أحياناً على الأرض، وبالديبلوماسية غالباً في العواصم البعيدة… ولا يبدّل من طبيعة هذا الواقع أن صورة «الدولة» ما تزال قائمة، ومؤسساتها وإداراتها تعمل حيث تستطيع، لكن ذلك أمر مختلف عمّا كان عليه الحال قبل انفجار الوضع في هذه البلاد التي طالما شرّفها أهل المنطقة جميعاً بلقب «قلب العروبة النابض».
كذلك الأمر في العراق، بل لعله أقسى وأمرّ… فالدولة تعيش هاجس التقسيم، والشعب يعاني قسوة الانقسام الذي لا يفتأ يتوسّع ويتعمّق ـ بالدم ـ طائفياً ومذهبياً وجغرافياً على قاعدة عنصرية، وغياب الدولة المركزية القوية يغري «الشرائح» المختلفة بأن تذهب كل شريحة في اتجاه، وفق مصالح الخارج، والخارج دول شتى!
وفي اليمن التي تمّ توحيد أرضها بالقوة تكاد الخلافات المصنّعة بين مكوّنات شعبها تعصف بوحدة دولتها التي استولدتها الثورة مسقطة زمن الخرافات وأئمة الأساطير..
يمكن أيضاً الحديث عن ليبيا التي ألغى دولتها العقيد معمر القذافي مفترضاً أن الثورة لا تحتاج إلى دولة بل يمكن تسييرها «باللجان» التي كان يتسلى بتشكيلها ثم حلها ثم إعادة تشكيلها ساخراً من الدول وأجهزتها البيروقراطية البعيدة عن روح الشعب ومطالبه!
هذا قبل الحديث عن «دول»، كالأردن، وإمارات الخليج العربي، وقد تمّ استيلادها قيصرياً وعبر تجميع بعض العشائر والقبائل لتكون أساساً لعروش لن يعرف الناس مدى خطورتها إلا مع النظر الى الكيان الإسرائيلي الذي أقيم على أرض فلسطين بالقوة القاهرة… ثم مع التنبّه لخطورة النفط الذي تستبطنه أرض الخليج بكميات هائلة، ومعه الغاز الذي رسّخ وجود دولة جديدة.
البعض يستذكر الآن اتفاق سايكس ـ بيكو باعتباره الركيزة الاستعمارية لتقسيم المشرق العربي إلى دول ليست لها مقوّمات الدول ولا القدرات التي تؤهلها للحياة، وان تكشف في ما بعد أنها مهّدت وهيّأت لإسرائيل، ومن أجل أن تكون «الدولة المركزية» للمنطقة التي نُزعت عنها هويتها العربية وتم الاكتفاء بتحديدها جغرافياً: «الشرق الأوسط»… كأنما الجهات الأربع هويات وطنية أو قومية، ثم أننا لا نعرف مَن وماذا يتوسط هذا الشرق وكيف يمكن أن يصير هوية للعرب فقط، الذين يُراد طمس هويتهم الأصلية والمرتبطة بالتاريخ أساساً ثم بالجغرافيا وكل ذلك عربي… إلا إذا انتبهنا إلى أن هذا الشرط ضروري لتصير إسرائيل هي دولة هذه المنطقة الوحيدة.
نعود إلى لبنان والدولة الغائبة بل المغيّبة فيه من دون أن يشعر أي مسؤول، أو حتى المواطن العادي بفداحة المصاب، وخطورة أن يتبدى هذا الوطن الصغير متروكاً للريح، يقرّر مصيره غيرُه، وذلك عبر مسار الأحداث في منطقته الواسعة التي تزلزلها في هذه اللحظة براكين التفجرات التي قد تتبدى طائفية أو مذهبية ولكنها في حقيقتها مقدمات لنتائج سياسية ربما تجسدت في إعادة رسم الخرائط بتقسيم الكيانات على «الأهالي» الذين سيكتشف «المكتشفون» و«العلماء» أنهم ليسوا شعباً واحداً، بل وليسوا شعوباً، بل هم أخلاط من بقايا شعوب عبرت هذه المنطقة أو عاشت فيها ردحاً من الزمان ثم اندثرت إلا قليلاً… فصارت مجاميع من الأقليات ليس بينها هوية جامعة، ولم يكن لها ماض واحد أو مشترك ليكون لها حاضر واحد أو مشترك، أما المستقبل فإنه لله..
وفقاً لهذا المنطق لا تعود ثمة حاجة إلى دولة مركزية في أي من هذه الأقطار التي رُسمت دولاً بقرار خارجي، بل يمكن الآن وبقرار خارجي يناسب العصر أن تُعاد صياغة هذه الكيانات بحيث يكون لكل طائفة «دولتها» ولكل مذهب «دولته» ولكل عنصر من الأقليات دولته، فليس مهماً عديد «الشعب» بل المهم وربما الأهم أن تحس كل «مجموعة» بأنها تعيش حرة في كيانها المستقطع من هذه «الدول» التي استنبتتها المصالح الأجنبية، ذات يوم. لقد تبدّلت الظروف، فلا بد إذن من تبديل أو تعديل في الخرائط يناسب توازن القوى الجديد بين الأقوام والعناصر في هذه المنطقة.
.. ولا بد أن تكون إسرائيل هي الدولة المركزية لهذه الأرض التي كانت عربية وتبقى عربية، إلا إذا تنكّر أهلها لهويتهم الجامعة.
لقد تعوّد لبنان أن يكون «رائداً» ونموذجاً متقدماً لأهله في هذه الأرض العربية، أو هكذا أُريد له أن يكون..
ولعل «تجربته» ككيان موحّد، جامع للعديد من الأديان بالطوائف والمذاهب فيها قد استنفدت الغرض منها، خصوصاً بعدما غدا نموذجاً يُحتذى ويعمّم.. حتى من دون الحاجة إلى وجوده!
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 14 تشرين الأول 2013