منذ زمن غير بعيد، دخل لبنان نفق اللا حلول. إنه يجتّر تجاربه السابقة، ويراهن على السقوط … ولقد سقط نهائياً. ولا مرة كان الحل مقنعاً، علماً أن الكلام يصف العجز ويسميه. إلا أن الساحات اللبنانية الطائفية المتعددة، اختارت الحل المستحيل.
هو لبنان، غير قادر على حل مشكلات بديهية. عبث. تطلع إلى الصراعات الطاغية في المنطقة العربية كلها، وعلّق يافطاته “الكلامية” على تخوم الحروب الداشرة… هو لبنان، لا يستطيع، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، أن يحل مشكلة الكهرباء، آفات التلوث، البنية التحتية المنهارة، الصحة البائسة، الليرة النافقة والخفيفة، و… عدِّد إلى جانب ذلك، انه لم يستطع أن يحافظ على مدخرات الناس، على رواتبهم المتآكلة، على درجة بؤس معتدلة، على إعلام لا يمت إلى الحقيقة بصلة… وأضف إلى ذلك، أن اللبنانيين البؤساء، التعساء، فضلوا الاحتماء بالطوائف، على أن يشهروا قبضاتهم، قبضاتهم فقط، في وجه خونة الرغيف والليرة والدواء والحياة.
هو لبنان، صاحب قضايا كبرى. يتشبَّه، وهو القزم السياسي، بالدول العظمى. انه منحاز إلى معسكرين مدججين بالأسلحة والجبهات والدول. حروب طاحنة، وهو الذي يحتاج إلى لقمة لإطعام جيشه، منخرط في الرمال العراقية، وموغل في الكلام عن اليمن، ومتطرف في نظراته المتناقضة إلى سوريا… هو عاجز وناقص وجبان. لا يتجرأ على ايجاد حل “البطاقة التمويلية”. عاجز عن لجم تحليق الليرة. مقصّر في الحياد داخليا. فريق مع القضاء، وفريق مع قضاء مضاد. ولا عيب في ذلك. القضاء مباع من زمان. وهو قاصر ايضا في فهم ما يجري في البنك المركزي، ومنقسم حول “حاكمه المفدى”. فريق يعتبره مقصلة اللبنانيين، وفريق يصفه بأنه الحاكم الحكيم والمحكَّم ولا بديل له… يتوجون انهياراته ويهربون من هذه الموقعة، إلى مأرب وطرابلس الغرب و…
والذئاب تنهش بمقدار ما تمارس الفجور. “حلفاء” القوى اللبنانية الطائفية، يدفعون لهم من كيسنا نحن. نحن الرهائن من زمان. نحن الصيد الثمين. نحن الفشل المستدام… ألا يلاحظ أن لا صوت يعلو على صوت “معركة المرفأ” وانفجاراته السياسية والقضائية المتتالية، والحبل على الجرار؟ ألا يلاحظ، حجم “الغشمنة” و”الفطحلة”، في مسألة تأليف الحكومة وتكليف رئيس الحكومة؟ كيف يقبل “أهل الاختصاص”، أن لا يكونوا وزراء، برتبة وزير، بدل عن زعيم؟ ألا يعرفون انهم جاؤوا من “مرجعيات” طائفية، سمَّتهم وزراء، وهم لا يحكمون بسبب ما يتحكم بهم… هل سألتم نفسكم إن كنتم وزراء، ام وكلاء صغار جداً، جداً … إلى آخر النفس.
عبثاً البحث عن حلول.
غريب رهان البعض المدعي، بأن الانتخابات (إذا حصلت) ستغير المنظومة الحاكمة والمتحكمة والمتهتكة والمزمنة؟ ما هذا الزمان؟ الطوائفيات كلها تحشد قواها “اللاديمقراطية”، “اللامؤسساتية”، “اللامواطنية” الخ… كي تعود مستقوية أكثر من الماضي والحاضر. قد يحظى القلة بالفتات. لايعوَّل عليها. لم نصبح بعد شعباً. يلزمنا أكثر من قرن. الدليل، اننا منذ قرن، أي منذ ولادة لبنان الكبير، ولبنان الدولة يتضاءل. ها هو على الحافة. ها هو في الهاوية. ها هو مهدد بوجوده، ومع ذلك، الطوائف تستقوي. لبنان “خلص”. البديل: “الطوائمقاميات”. أي، نظام القائمقاميات الطائفية. والبرهان واضح ويملأ الميدان. من سيفوز مارونيا؟ إما ماروني منتفخ ومدعوم، وإما ماروني انتفخ كثيراً، ثم “بنشر”. من سيفوز سنياً؟ برغم التلعثم الحريري، الناجحون سيكونون في اكثريتهم الساحقة والمسحوقة، مع جلالة المملكة في الخليج. برغم الابواب السعودية المقفلة. من سيفوز شيعياً؟ الثنائي الشيعي مبرم. الشعار: “زدني شيعياً و “إيران اولاً”. أما الدروز، فسيتقاسمون المقاعد، حبياً، برغم العداوات الموسمية. الدروز موحَدون، فلا يتفرقون، إلا نادراً جداً.
البدائل الميدانية ما زالت في اول السلَّم الانتخابي. لم توفق في توحيد الموَّحد بينهم من شعارات “جميلة” ومستحيلة. لم تتشكل جبهة بعد، ولن… التنسيق مفقود. الثقة معدومة. الانانية متفشية جداً. الاحزاب في سيام سياسي… ثم، وهذا هو الأهم، هناك من يرتبط بسفارات. هذا عار وخيانة. تهربون من الطائفية والفساد وانعدام الاخلاق، إلى سفارات تتعامل معكم بالإملاء. أنتم وأنتن ستكونون رهائن… شعارنا راهناً: “مية مرة طائفي ولا مرة خادم سفارة”. الطائفي معلن التزامه البدائي الخرافي إلى طائفته. اما أنت أيها “المواطن” اللاطائفي، فقد ارتكبت الكبائر. أنت كالطوائفيين، ولكنك مكتوم. الطوائف في لبنان، ليست لبنانية إلا في سجلات النفوس. أما في الممارسة، فالطوائف موزعة على إيران والسعودية والغرب القريب والبعيد، والخشية الكبرى، أن يكون بعض المرشحين، هم سفراء التطبيع مع العدو الاسرائيلي.
ما هذا البلد؟ أكلُّ المصائب والعورات فيه؟ الا يرتدع قليلاً؟ الا يفكر سليماً؟ الا يتواضع؟ الا يسأل ماذا جنيت لنفسي وما جنيته على شعبي؟ الا يعرف أن العنف مرة أخرى، سيكون حروباً لا حرباً، ولو بالتقسيط؟ زمطنا حتى الآن مرتين. “الثالثة ثابتة”… الويل لكم، يا اكلة لحوم اللبنانيين.
منذ زمن بعيد، كانت الانهيارات تقف عند حدود. هذه المرة، انهار كل شيء. اللبنانيون الغلابى، هائمون على وجوههم. بحثاً عن حفنة من الدولارات، بحثاً عن حليب اطفال، عن ثياب تقي الرجال والنساء من البرد، عن حبة دواء، عن علاج ضروري، عن دخول مستشفى، عن تأمين فاتورة الكهرباء، عن لقمة خبز ومنقوشة زعتر، عن ايجار البيت، عن مازوت تدفئة… “يا اخوات الطوائف” (هاي شتيمة) إن الجحيم ترفض استقبالكم. حتى هذه تقرف منكم.
يا بؤساء لبنان. أنتم لا تلامون الا قليلا. يلام المثقفون الاحرار، الكتاب واساتذة الجامعات واصحاب الرتب العليا في العلم والقانون والفلسفة والزراعة و… يلام هؤلاء، لأنهم فضلوا الاحتضان الطائفي المنفعي، على احتضان قضايا الناس، اهلهم واصدقاؤهم وذوو القربى. لقد رهنوا أنفسهم ليكونوا مقربين من زعامات طاعنة في الفساد والإفساد.
بعد كل هذا الذي قيل، وبعد كل ما لم يقل، نصل إلى خاتمة التفاؤل: لا حل لمأساة لبنان. اننا نحفر في قاع الحفرة. لا شك أن الأسوأ قادم.
اين ديوجين؟ اننا بحاجة إلى بصيص، فكل شيء مطفأ، وكل الابواب مغلقة.