كيف نكتب ما قد كُتب مراراً؟ لبنان هذا هو. هكذا كان، وهكذا سيكون. لا جديد في سيرته. هو على وشك أن يموت، ولكنه لا يموت. يستطيع أن يُعيد انتاج نسله بتفاؤل منهك. ذاكرته غير مرتبكة، تحتفظ بالأصل وتنسج على منواله. لا جديد في لبنان أبداً. لا شبيه له أبداً بفضل العيش على الحافة. كل المشكلة أنه يفاجأ بسيرته، وشعبه مشبع بتفاؤل غبي. يعترف بأن الطائفية علته، وعلة وجوده، وعلل مآسيه، ومع ذلك، فهو مؤمن جداً بقدسية هذه الطائفية.
لبنان هذا، هكذا كان. المشاهد السياسية المتتالية، لها نسخة في الأصل التكويني. لنأخذ مثلاً على ذلك. أليست إحدى المشاكل الراهنة هي العجز في تأليف حكومة، لا لتحكم، بل لتتحكم. يلزم ألا تغرنا الكلمات والصياغات والآمال!!!
لنفتح روزنامة لبنان الاستقلال، وكيفية ارتكاب نذالة التأليف. المشهد في أربعينات القرن الماضي، كان يتصدَره ثلاثة، لا إثنان. الشيخ بشارة الخوري. منوط به، تأليف الحكومة، وإملائها على اللبنانيين. لكن الشيخ بشارة لم يكن يتكئ على أكثرية نيابية مطواعة له في البرلمان. كان بحاجة إلى دعم من الجماهير المارونية. أخوه السلطان سليم الخوري، الحاكم الفعلي آنذاك، كان يتولى دعم الشيخ بشارة، بالمظاهرات. والسلطان سليم، يتدخل في كل شاردة وواردة. يسيطر على عدد من الوزارات والمؤسسات وليس من يحاسبه أو يقاضيه، فهو، بمنطق “الميثاقية” المدنس، مسؤول عن تأمين العهر السياسي وإلا…
هذا من جهة. خصمه الأول، رياض الصلح. الشريك “الميثاقي” في إنتاج “الصرعة” اللبنانية، التي تنتج صفقة، ولا تلد وطناً. وطبيعي، أن يلجأ الصلح إلى قاعدته الشعبية، المرسملة بقبضايات الأحياء البيروتية والصيداوية. وغالباً ما كانت جماهير الطوائف، تغزو الشوارع المتعاكسة طائفياً، ويصار إلى إطلاق نار في الهواء، لتعريف الخصم، بأنه هنا.
كل حكومة تؤلف، كانت تتم بصفقة، ترسي التوازن والأمن، وينال كل فريق حصته. وتعود القواعد الطائفية إلى مواجهات دون أن تنال رغيفاً.
هذا هو الميثاق الوطني، الذي كان ركيزة النظام السياسي. لكل حصته. وعندما اندفع كميل شمعون لتحجيم “زعماء” الطائفية الخدومة جداً. حضر السلاح وأقيمت المتاريس وسقط القتلة، واستعرت الطائفية. ويا غيرة الدين، وانتهت المعركة بخروج شمعون مكسوراً، لأن الجيش لم يتدخل لمعاقبة الشغب الطائفي الذي نال الضفنين: المسيحية والإسلام.
لنعد إلى اليوم.
الرئيس ميشال عون، يريد أن يحكم. لا يقبل بأن يكون حكَماً. ما هذه الرتبة؟ رئيس بلا رئاسة ولا نفوذ. البديل عن السلطان سليم النافذ جداً. والحاكم مثلاً، هو “المشير” جبران باسيل. سعى لتأمين أكثرية مسيحية، بحجة التوازن الطائفي، وبشعار الميثاقية والمشاركة، ولقد حصل ذلك. وكان النصر من هذه المعركة، تمكين الرئيس بالحكم والتحكم. في المقابل، شخصية سنية. وارثة “لتراث” أبيها، هو الرئيس المكلف سعد الحريري. وسعد يلعب دور رياض الصلح، مع فوارق جوهرية. يعتبر، برغم كفاءته المشكوك فيها، الممثل الشرعي السني والأكثرية معه، إلى جانب أرصدة مصرفية ومركزية الخ. ولا إمكانية لتأليف حكومة لا يرضى عنها السنة.
هذا وجه من وجوه لبنان. هكذا كان. هكذا هو الآن، هكذا قد يكون غداً، وقد لا يكون لبنان. هناك حقائق يجب أن تقال بصوت عال، تترافق مع اقدام متظاهرين في الشارع، يتطلعون إلى لبنان جديد، يدفن إلى الأبد صيغة “الميثاق الوطني” الكاذب، ويزيح طاقم النفاق السياسي والطائفي، الذي بلغت به الجريمة، أنه الآن، يتفرج على الهاوية التي يدفعنا إليها، بلا مشقة منه وبلا خجل وبلا ندم… إنهم ليسوا فاسدين. بل هم مجرمون.
يلزم أن تكون الكتابة، على الأقل راهناً، قفزاً خارج صف القتلة.
فيا أيها اللبنانيون، إننا محكومون بقتلة لبنان واللبنانيين. لا تقبلوا بأن تكونوا ضحايا. إذا كنتم عاجزين على التغيير. فعلى الأقل، اصرخوا… اصرخوا… لا تموتوا بصمت وجبن. واتركوا للطائفيين سوء المصير.