نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 26 شباط 1994.
من دمها تستولد فلسطين ذاتها، يحاولون قتلها مرة كل يوم، فتولد – بدمها – ألف مرة في اليوم.
والفجر الدامي للخامس والعشرين من شباط 1994، النصف من رمضان 1414، مرشح لأن يكون المولد الجديد لفلسطين التي لا يقتلها الرصاص ولا ينهيها التهجير ولا تزوير الهوية ولا انحراف القيادة وتهالك الثوار المتقاعدين على “سلام الجبناء”.
إسرائيل هي إسرائيل وفلسطين هي فلسطين والحد بينهما حد السيف، والدم المسفوح يجرف التخوم ويسقط الأوهام المتلطية خلف التسوية المستحيلة بين الجلاد والضحية أو بين الشمس والليل الدامس كمثل التعصب إظلاماً.
.. والمتعصب كافر، يطلق الرصاص أول ما يطلقه على الله والأنبياء والصديقين، داخل الحرم الإبراهيمي كما داخل كنيسة القيامة كما داخل المسجد الأقصى وخارجها جميعاً وبامتداد مساحة أطماعه المموهة بالخرافة الدينية.
والضحية الأولى لمذبحة الحرم، أمس، كان “خليل الله” إبراهيم، الرابط القدسي بين المؤمنين باليهودية أو بالإسلام، كما بين اليهود والعرب بالنصارى منهم وأتباع الدين الحنيف.
لكن الغول الإسرائيلي لن يُخرس الصوت الحي المدوي بهتاف “الله أكبر” ولن تبتلع صحراء الخوف الأخرس صداه المبشر بالجنة فلسطين.
فمع فجر اليوم، ومع فجر الغد، واستباقاً لكل شمس جديدة، وتبشيراً بالولادة الجديدة، سترفع فلسطين آذان فجرها الخارج مطهراً ومنوراً من قلب أتون الموت الجماعي واغتيال الأطفال والورود وزهر الليمون.
العجز أشد من القتل، واليتم أقسى من المذابح المنظمة.
وأمس بدا شعب فلسطين يتيماً، بل لطيماً يكاد ينكره أبوه ولا يستطيع الوصول إلى أمه ولا هي تستطيع أن تمد إليه بالمساعدة يدها.
لقد تبدى شعب فلسطين، أمس، في صورته السياسية الواقعية البائسة: لا مرجع له يذهب إليه بأشلائه فينصفه، لا قائد ولا قيادة، لا ثورة ولا دولة، لا إدارة مدنية ولا بلدية ولا أي شكل من أشكال الحكم الذاتي، لا حائط مبكى في الأمم المتحدة ولا مجلس أمن يصدر قرارات لتبرئة الذمة وليس للتنفيذ|.
ولقد تعاطى العالم مع المذبحة وكأنها “حادث أمني” في الداخل الإسرائيلي، لا يعني إلا حكومة إسرائيل.
حتى حكومة العدو الإسرائيلي تصرّفت وكأنها “طرف ثالث” محايد، فصوّرت الأمر وكأنه اعتداء من متطرفين على متطرفين، وهكذا برأت الطرف الأول من خلال “وصمه” بتهمة الخلل العقلي، وأدانت الطرف الثاني، المقتول، ثم بعثت إليه ببرقية تعزية لتكمل الفولكلور الذي لجأت إليه منظمة التحرير بإعلان الحداد العام والإضراب المعلن فعلاً لانشغال الأهالي بدفن شهدائهم!
أما الأنظمة العربية فقد حملت المسؤولية لمن يعطل العملية السلمية.
وأما “السيد” الأميركي فقد اعتبر المذبحة عملاً فرديتاً تسبب فيه التطرف على الجبهتين!
يتيم هو شعب فلسطين، وأمته مغيبة الفعل مكبلة الإرادة.
لا مرجع له إلا دمه الغزير والقليل من السلاح (وقد وزع معظمه في الأصل العدو ذاته، من أجل الفتنة).
ولا قيادة له إلا إرادته برفض الاحتلال واتفاقات الإذعان، وذلك النفر من شبابه المنذور للشهادة.
أمس، تحررت الخليل. حررت نفسها بدمها. سابقت غزة فسبقتها. وغداً ستجيء نابلس وجنين وطولكرم ورام الله والقدس.
واليوم يعلن الجيل الفلسطيني الجديد الذي ولدته الانتفاضة، تحرره من القيادة الرسمية العاجزة، ويتولى زمام أمره بيديه.
وهرطقة مسيئة إلى أرواح الشهداء تلك التي تحاول أن تفصل المستوطنين عن الجيش الإسرائيلي، والجيش عن حكومته والحكومة عن “شعبها” المسالم!
وجريمة مروعة أن نغرق في النقاش حول ذلك المستوطن المخبول الذي ظل يقتل حتى مات!!
هل كان علينا أن ننتظر كل هذه الشهور حتى نرى صورة مجسمة وملونة بالأحمر القاني لاتفاق أوسلو، ثم لتفاصيله في اتفاق القاهرة، حتى يثبت لدينا أن إسرائيل هي إسرائيل، لم تتغير ولن تتغير إلا إذا صرنا أقوياء فغيرناها؟!
ولأنها الأقوى فهي التي تغيرنا أو تجبرنا على إسقاط الرايات وتبديل اللغة والشعار ولون العينين لكي ترضى بالتفاوض معنا على ما يتوجب علينا تغييره بعد.
ولقد تغيرنا فعلاً، بدليل أن المفاوضات ما تزال تسير بقدرة مولاها… و”أتباع إله إسرائيل” يجوبون الشوارع وفي أيديهم السلاح الأميركي، يطلقون الرصاص على الله والأنبياء والصديقين وشعب فلسطين ومجموع الأمة.
لن يتحول المسجد الجامع إلى ضريح،
ولن يتحول إلى مزار.
لعله الآن في طريقه لأن يعود إلى ما كان يجب أن يكونه دائماً: قلعة الصمود، ومركز القيادة، ومنطلق الثوار الذاهبين مع الفجر إلى تحرير الأرض المطهرة الآن بدماء أبنائها،
هم فيها، وهي فينا.
حي على الفلاح، حي على الأرض، حي على الشهداء، حي على التحرير، حي على فلسطين التي تستولد نفسها مع كل فجر جديد، وبدمها تكون الولادة والمولد.