غريب أمر الكتابة هذه الأيام في موضوع الانتقال من نظام عالمي إلى نظام عالمي آخر. ففي كل مرة حاولت الاقتراب من الكتابة فيه قابلتني ضرورة أن أحصن نفسي وما أنوي كتابته بعدد من الملاحظات، سمها تحذيرات أو احتياطات أو تحفظات. لتوضيح ما أقول أستأذن في طرح تدقيق في العنوان المتصدر لهذه الصفحة. آمل أيضا في أن يمتد الإذن فيسمح لي بنشر تمهيد مرغوب.
يتعلق التدقيق في العنوان بمبالغة غير مقصودة في صياغته. جاء في العنوان أن “كلهم يستعدون” قبل أن أكتشف أنه قد يترك الانطباع لدي القارئ بأنني أقصد التعميم بينما الواقع الدولي المعاش لا يشجع على هذا الرأي أو التصور. الواقع المعاش هو أن ليس كل الدول الأعضاء في النظام الدولي الراهن يستعدون لتغيير فيه وربما لعضوية في نظام دولي جديد، ناهيك عن حقيقة أن دولا غير قليلة ربما لم تدرك بعد أن تغييرا ما قادم ولا شك.
***
أما التمهيد للموضوع بسطور قليلة فناتج عن حرص من جانبي على مواصلة الإمساك بقراء أكثرهم أراهم سئموا قراءة مقالات تناقش أمورا لعلها كانت كتابة وقراءة من الاختصاص الدقيق لكبار منظري علوم العلاقات الدولية قبل أن تتسحب فتصير من بين مفردات غذائنا الفكري اليومي. لا بد من الاعتراف على كل حال أن بعض ما كان من نصيب التنظير ومسئولية الأكاديميين صار موضوعا للرأي العام، لصانعيه ومستهلكيه معا.
***
أبدأ بملاحظات تعريفية وفي شكل رءوس موضوعات ولكن ضرورية، أولها: أن النظام الدولي الذي نعيش في ظله أنشأته القوى الدولية المنتصرة في نهايات الحرب العالمية الثانية بعد ضم كل من فرنسا والصين إلي الدول المؤسسة. بعد سنوات قليلة أخذ النظام الدولي شكل القطبية الثنائية، أمريكا والغرب الرأسمالي في ناحية وروسيا والشرق الشيوعي في ناحية. سنوات أخرى ويقرر عدد من دول الجنوب ومعه يوغوسلافيا تشكيل جماعة الحياد الإيجابي تمييزا لها وحماية من قسوة سياسات الحرب الباردة الناشبة بين أطراف حلفي شمال الأطلسي ووارسو.
***
ثانيا: بانهيار الاتحاد السوفيتي ثم انفراطه انهار تلقائيا النظام الدولي القائم على القطبية الثنائية ليحل محله على الفور نظام قطبية أحادية وبمعنى أدق نظام هيمنة تمارسها وتقوده الولايات المتحدة. الهيمنة هي شكل وجوهر النظام الدولي القائم والعامل بقواعد وقيم النظام السابق عليه وبرغم التغيرات العديدة في البيئة السياسية والاقتصادية لعالم تتغير معظم متغيراته.
***
ثالثا: صارت هيمنة أمريكا عرضة لشقوق تنشأ وتتكاثر. الغرب الخاضع للقيادة الأمريكية تسربت لوحدته عناصر ضعف لم تكن موجودة. بعض الضعف نسبي بمعنى أنه ناتج عن صعود الصين وتعافي الاتحاد الروسي من عواقب مرحلة الانفراط السوفيتي ومحاولات فرض الهيمنة الأمريكية على تطور أحواله. بعض الضعف الآخر ناتج عن تكاثر مشكلات البناء الداخلي في القطب القائد، أي في الولايات المتحدة، وبخاصة انحدار مكانة وأداء القيادة السياسية بدليل ملموس وهو الأداء السيئ للقيادة الأمريكية في حرب “الغرب ضد العراق”، والخروج غير المنظم من أفغانستان.
***
رابعا: جرت محاولات متعددة لوقف تدهور نظام القطب الواحد ومنع تنامي جهود الآخرين تسريع الانهيار لصالح نظام دولي جديد. من هذه المحاولات الجادة: أ- استفزاز روسيا للدخول في حرب ضد الغرب عن طريق حث أوكرانيا بعد تدبير انقلاب فيها على طلب الانضمام لحلف الأطلسي، ثم التوسع في تطبيق نظام العقوبات الاقتصادية على موسكو ب- استفزاز الصين لممارسة أعمال عدائية ضد تايوان واليابان ودول الجزر في بحر الصين الجنوبي وضد الهند في حدودها المشتركة مع الصين. من ناحية أخرى راحت واشنطن تكثف إجراءاتها الهادفة إلى تعطيل النمو الاقتصادي للصين عن طريق وضع العراقيل أمام استمرارها شق ممرات اقتصادية صينية جديدة في أوروبا وأفريقيا وبفرض تعريفة جمركية عالية على وارداتها من الصين ج- إسرائيل من جانبها، وربما بتشجيع مدروس من جانب واشنطن، قررت أن الفرصة أكثر من مناسبة لاستئناف جهود تغيير موقعها في حسابات النظام الدولي نحو موقع متميز وأوسع في مفاوضات جارية بالفعل حول جغرافية وطبوغرافية وتوازنات النظام الإقليمي تحت التأسيس. رجعنا إلى تصريحات نفتالي بينيت رئيس وزراء إسرائيل الأسبق قبل عقود ثلاثة أو أربعة قال فيها إن إسرائيل تعيش في انتظار “الفرصة الأعظم” لتتوسع وتحقيق هدف إسرائيل الكبرى وقارناها بتصريحات نتنياهو الأحدث التي تحدث فيها عن نية إسرائيل بناء “شرق أوسط جديد”. كلا التصريحين صدرا في أجواء نوايا ليست خافية تهدف إلى تغيير في شكل وجوهر النظام الدولي الذي أفرز إسرائيل الصغرى نحو نظام يمكن أن يفرز إسرائيل الكبرى وإقليما خاضعا لها. من هنا ازددنا شكا وربما قناعة أن أطرافا دولية عديدة كانت على دراية بنوايا حماس الهجوم على مستوطنات الغلاف، وأن إسرائيل لم تمنعها إحساسا منها بأن الهجوم يمكن أن يرتب تحقيق الفرصة الأعظم التي انتظرها نفتالي بينيت قبل عقود وشرع في انتهازها بيبي نتنياهو بتشجيع خارجي، كما يبدو. (رجعنا في هذا أيضا لكتاب بوب وودوارد بعنوان “حرب” الصادر هذا الشهر). هذه الفرصة العظمى قد لا تتاح لإسرائيل في ظل نظام دولي مختلف عن نظام الهيمنة الراهن.
د: تزداد كثافة وأهمية المساعي والأنشطة الجاري تنفيذها في جهات أخرى من نظام دولي يستعد للرحيل.
1: يلفت النظر حال الشكوى المتزايدة داخل قيادات مؤسسات الأمم المتحدة من عواقب ترهل وضعف النظام الدولي الراهن، يلفت النظر أيضا الصدامات المتزايدة مع ممثلي هذه المؤسسات بل ومع الأمين العام بذاته.
2: لم يعد العمل على صنع نظام دولي جديد سرا أو تآمرا يجري تنفيذه في الخفاء. لاحظنا ببعض التفاؤل بعض التصريحات المبكرة ثم الأخيرة حول الموضوع من مسئولين في مجموعة بريكس. بل وفي اعتقادي أن دولا في الجنوب صارت تطمح إلى عضوية المجموعة لأمل لديها في فرص تستعيد بفضلها بعض سيادتها وحريتها في العمل الدولي والتجارة الدولية في حال أمكن تحرير هذه التجارة من هيمنة الدولار، أحد رموز الهيمنة في النظام الدولي القائم.
3: من هذه الدول إيران. ولإيران، كما لا شك لاحظنا، مكانة خاصة لدى مختلف الأطراف المنشغلة بقضية تغيير النظام الدولي الراهن، وبخاصة أطراف الجهود المبذولة لصنع نظام دولي جديد متعدد الأقطاب إن أمكن.
***
أثارت القضايا المثارة حول استمرار النظام الدولي الحالي واحتمالات تغييره إلى نظام جديد ومنها قضية أو قضايا الدفاع، أثارت تكهنات ونقاشات حول مستقبل قضايا الأمن الجماعي والدفاع بشكل عام. المثال البارز في هذا الشأن هو المتعلق بما يطلق عليه في تايوان مفهوم “كل المجتمع” أو شمولية الدفاع بمعنى أن حروب الدفاع القادمة سوف تعتمد مبدأ مشاركة كل المجتمع في الحرب أسوة بالتحول الحادث في تايوان والمتبع عادة في إسرائيل والمنقول عنهما إلى دول الشمال وبخاصة إستونيا وفنلندا ولاتيفيا ولتوانيا والنرويج والسويد استعدادا لمواجهة أفعال عنيفة من جانب القطب الروسي. لم يعد هذا الشكل من حروب الدفاع خاصية فقط للدول الشمولية أو الدكتاتورية بل تمكنت هذه الدول الديموقراطية من ممارسته ولو على الأقل في مرحلة الحشد والتنظيم لمواجهة عواقب أي تغييرات كبيرة في النظام الدولي الراهن. ولعله النموذج الذي سوف يطرح نفسه على الدول العربية في حال استمرت تواجه حملات إسرائيل وحروبها على الطريق لإقامة شرق أوسط جديد بمواصفات صهيو أمريكية.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق