لن تحمل طائرة الرئيس الأميركي بيل كلينتون »الدولة« إلى فلسطين، بل هو سينتقل من تل أبيب أو القدس المحتلة إلى غزة وجهات أخرى باعتبارها »بعض أعمال إسرائيل« المتمتعة بشيء من الحكم الذاتي.
سيكون انتقاله بالحوامة تعبيرا أو توكيدا على أنها »رحلة داخلية« لا تخرق »المجال الجوي الإسرائيلي« ولا توحي بأي استقلالية لا »للسلطة« ولا لقرارها ولا للأرض التي تقف عليها.
لن يكون الضيف الأميركي الكبير شاهدا على انتصار النضال الوطني الفلسطيني الطويل، بل هو سيكون الشاهد على شطب الصفحات المضيئة في ذلك التاريخ، والاعلان الرسمي عن نهاية الحلم بالتحرير والعودة، أو الحق المقدس بإنجازهما، أو أقله بحفظهما للأجيال الآتية.
فالسلطة هي، في أحسن الحالات، »محمية أميركية« داخل الكيان الإسرائيلي، لا تخرج منه ولا تخرج عليه، وتشارك المخابرات المركزية الأميركية مباشرة في حماية إسرائيل من »فلسطينييها« الذين لا تقبلهم في دولتها أو في ظل دولتها إلا كأقلية قومية أو عرقية أو دينية، كما تشارك في حماية »السلطة« من »رعاياها« بالاضطرار في الداخل، ومن المعارضة التي تشكل الامتداد الطبيعي للنضال الوطني بأفقه القومي في »الخارج«، ولا سيما في الخارج »العربي« ومعه ربما »الخارج الأميركي«.
عملياً، يجيء كلينتون، الذي تطارده فصول المحاكمة »المخزية« خصوصا وهي تطرح ولو نظريا مسألة جدارته بالرئاسة، لزيارة »إنجازه« اليتيم في سياق »العملية السلمية« التي انبثقت عن مؤتمر مدريد، والتي يفترض انه »راعيها« و»قوتها المحركة« ومصدر الضمانات لأطرافها العرب، والتي سقطت صريعة تراجعاته المتوالية أمام التطرف الإسرائيلي الذي هدد بإحراقه في واشنطن (ذاتها)، وكاد ينفذ بل هو شرع في تنفيذ تهديده حتى أخضعه تماما.
وفي حساب كلينتون فإنه آت ليأخذ من الفلسطينيين مقابل ما أعطاهم في »اتفاق واي« البائس، وهو سيأخذ فعلاً يوم الاثنين (بعد غد) حين يعلن من فوق منبر »السلطة« في غزة سقوط الحقوق الفلسطينية، الجغرافية والتاريخية والسياسية، عبر شطب الميثاق الوطني الفلسطيني الذي شكل على امتداد ثلث قرن الأساس السياسي والقانوني للنضال الوطني محددا أهدافه ووسائل تحقيق تلك الأهداف والذي على أرضيته قامت منظمة التحرير الوطني الفلسطينية.
بعد زيارة كلينتون لن يتبقى من فلسطين غير سلطة عرفات في غزة.
لا منظمة تحرير، ولا ميثاق، ولا مستقبل يُطلب بالكفاح المسلح أو بالمقاومة السلمية أو حتى عبر حقوق الإنسان الخ…
من في الداخل »رعايا« يجتمع على تأديبهم واخضاعهم وابتزازهم اليومي ثلاث سلطات »شرعية«: سلطة إسرائيل، وسلطة عرفات، وسلطة المخابرات المركزية الأميركية.
ومن في الخارج »خوارج« منكورة عليهم هويتهم الفلسطينية، ومن ثم حقهم في النضال من أجل استمرارهم داخلها حتى لو مُنعوا من العودة الى داخل الأرض.
كذلك فان المعترضين في الداخل لا يملكون هامش الحركة الذي كان لهم أيام الاحتلال الإسرائيلي المباشر من أجل تجديد الانتفاضة… وبرغم انهم قدموا ويقدمون الشهداء يومياً فان قدرتهم على التحرك ملجومة بالسلطات الثلاث، واخطرها سلطة »اخوانهم« الذين كانوا يتقاسمون معهم الحلم ثم ارتدوا فانقضوا عليهم يشبعونهم اعتقالاً وسجناً وتمزيقاً لصفوفهم، محولين الحلم الى كابوس او الى وهم لا يرقى حتى الى مرتبة الشعر!
وكلينتون قد جاء لتمهيد »الطريق الوعر« بعد اتفاق واي، ولازالة بعض »النتوءات المزعجة«، على حد ما قالت وزيرته مادلين أولبرايت.
لكن التطرف الإسرائيلي يملأ الجدران بشعارات »عد الى بلادك«، وبصور كلينتون وقد ارتدى لباس الرأس العربي (الكوفية والعقال)..
لقد »سرقوا« من الفلسطينيين، خاصة، ومن سائر العرب، عموماً، شعاراتهم!
ولعل في هذا المشهد الدراماتيكي ما يضفي على زيارة كلينتون المزيد من الكاريكاتور!
ومن اسف ان المعارضات الفلسطينية، سواء في الداخل او في الخارج، لم تعد تستطيع رفع مثل هذا الشعار، وخفضت سقفها حتى لا ترتطم بالاستحالة، خصوصاً ان الكل يعرف حجم البلبلة والاضطراب وافتقاد القدرة والعجز عن إعادة صياغة شعار النضال الوطني في ظل الظروف التي تسودها او تحكمها عربياً ودولياً.
وما دام ان هذه المعارضات لا تملك القدرة او الادوات اللازمة (فكرياً وسياسياً وعملياً) لتغيير الأمر الواقع الذي يفرض نفسه اليوم، فمن الأفضل ان يتركز جهدها على استنقاذ المستقبل، وان تحفظ الراية والشعار المقدس للاجيال المقبلة.
لا أحد يطالبها، ولا هي تستطيع حتى لو ارادت، ان تُسقط المرحلة، لا فلسطينياً ولا عربياً، ولا بالطبع أميركياً او إسرائيلياً.
فليكن الغد هو الهدف وهو الغاية.
قد لا يكون المطلوب استيلاد »منظمة تحرير« جديدة، بل لعل تبدل الظروف يفرض تبديلاً في صياغة الاطار والادوات والشعارات، بما لا يشكل تجاهلاً للواقع السياسي الراهن، فلسطينياً وعربياً ودولياً، ولا يفرط في الوقت نفسه بالحق في الغد.
وليتذكر الجميع ان »الكيانية الفلسطينية« وان الهرب بالقضية الفلسطينية من العرب، او اعفاء العرب من تبعاتهم، كان في جملة الاسباب التي أدت الى الوضع القائم او بررته… »فالقرار الوطني المستقل« قابله عربياً »نرضى للفلسطينيين ما يرتضون لأنفسهم ولن نكون ملكيين أكثر من الملك«، وهكذا انتهى الأمر الى التسليم بالاحتلال.
انه صراع مفتوح، عربي إسرائيلي بالضرورة، حتى لو شكل الفلسطينيون طليعته.
والهزيمة في فلسطين هزيمة عربية شاملة… وهنا خطورة »شهادة« كلينتون عليها!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان