نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 10 آذار 1999
كلما توسعت دائرة الاتهامات في فضيحة النفط هتف اللبنانيون: هناك آخرون هاتوهم! لماذا لا يساق إلى القفص من يلفظ الناس بأسمائهم منذ سنوات؟!
ولولا شيء من حسن الظن والافتراض ان توجيه الاتهام وسوق المعنيين يحتاج الى مزيد من التدقيق والتمحيص في القرائن والبيانات، لتوجه الناس إلى أهل القضاء يسألونهم: ماذا تنتظرون!
كذلك فكلما انفتح، بالمصادفة او بالقصد، بالاخبار او بالعفوية المدبرة، ملف لفضيحة جديدة هتف اللبنانيون على طريقة جمهور مصارعة الثيران: اولي!! هل من مزيد؟! فإذا لم يسمعوا ما يطمئنهم الى استمرار اللعبة هتفوا مجدداً: بل لا بد من مزيد!!
ولقد يتبرع بعضهم هنا، كما هناك، ب»كرج« الاسماء والمواقع ومواضع الصفقات وأرقام الاختلاسات والهدر في المال العام؟
كل مسؤول، في لبنان، متهم في ذمته المالية حتى تثبت براءته!
على أن هذا »المزاج الشعبي« العام المصدق سلفا للاتهامات، والمتشكك في امانة الغالبية الساحقة ممن تعاقبوا على سدة السلطة منذ الاستقلال وحتى الآن، بل وقبل ذلك بكثير (رجوعاً الى الامير بشير الكبير والامير فخر الدين المعني الثاني الاكبر، وربما الى أيام الفينيقيين!!)، قابل للتحول فجأة الى المنقلب الثاني، المعاكس تماماً!
في عز الهجمة تجد من هو مستعد للتبرع بالاسباب التخفيفية للمتهمين بل المدانين تحت عناوين مختلفة، من نوع: وهل كان وحده المرتكب؟! هل هو المختلس الوحيد أم »انهم« لا يقدرون على من هم اكبر منه؟! استضعفوه فوصفوه!! أين فلان وعلان ممن يعرف الجميع تفاصيل التفاصيل عن مخالفاتهم وصفقاتهم المشبوهة؟!
في السلوك اليومي للبناني لا عيب في الاختلاس بذاته، ألعيب في غباء المختلِس الذي يترك بصمات تدل عليه!
وفي التراث الشعبي لا ضير على »الزعيم« او »النافذ« او »المستغِل« ان هو اساء الأمانة، وبدد المال العام او »استعار« منه احتياجات الزعامة (القصر، اليخت وربما الطائرة الخاصة، السيارات، البيت في باريس، الشقة في نيس او مونت كارلو او في الانتيب، او البيت الريفي المطل على بحيرة ليمان في ضواحي جنيف).
وكثيرة هي الحالات التي تصدى فيها »مواطنون صالحون« وفقراء جداً كي يبرروا لزعيمهم او مستغِلهم حقه في الرفاه… مع وعيهم (؟) ان ذلك انما يتم بأموالهم وعلى حساب ابنائهم الذين قد لا يجدون مدرسة او مستشفى أو جامعة يكملون فيها تحصيلهم العالي او مياه شفة او كهرباء في بيوتهم!
مرة يكون الولاء الطائفي او المذهبي او القبلي هو المبرر،
ومرة يكون الاعجاب بالقيم الفينيقية الوطيدة هو السبب، من نوع: ياكلها الذيب ولا ياكلها الكلب!! او: الشاطر ما يموت! او: موجبات الزعامة تفرض عليه مصاريف باهظة لا بد ان يدبرها؟! (ولولا بعض الحياء لاضاف هؤلاء: انه لص شريف.. يسرق لكي يصرف علينا..«!
على ان الاخطر هو انعدام الاحساس بان المال العام هو مال الشعب، مال المواطن اللبناني، مال كل رجل وكل امرأة وكل طفل، مال الجيل الحاضر والجيل المقبل.. وانه لا يأتي »صدقة« او »هبة« او من ضمن هدايا بابا نويل في حذائه ذي الرقبة عشية عيد الميلاد!
»المال العام« يكاد يوازي في ذهن اللبناني العريق في تقاليده: المال السائب!
ربما لان »اللبناني« لا يحترم كثيراً فكرة »الدولة« في وطن الارز، بينما هو يحترم الى حد الانسحاق قوانين الدول الاخرى.. واموالها العامة (الضرائب مثلا)؟!!.
اللبناني اهم من دولته، والدولة عنده مجرد »مسهل معاملات«.
انه »فرد« واحد، يجاور افراداً آخرين، واحداً واحداً، على ان الافراد لا يجتمعون، وليس لهم »كل« وليسوا »مجتمعاً«، وبديهي ان تكون »الدولة« في تصنيفهم مجموعة من الموظفين والاجراء الفاسدين بالسليقة ولا بد من طردهم جميعاً لانهم »حرامية«،
فاذا ماجاء ذكر المسؤولين الكبار في »الدولة« صار وصف »الحرامية« شهادة كفاءة!
ان كل محاسبة او محاكمة لاي مسؤول هي ادانة قاطعة للنظام السياسي الذي انجبه وحماه وهو تفَسدَ وَعَظُُم شأنه كلما اثبت تفوقاً في الفساد والافساد،
واهم ما في دروس الفضائح الجديدة (والجديد فقط هو السماح للقضاء بالتحقيق فيها) انها تؤكد ضرورة المبادرة الى التصدي للمهمة المحظورة: الاصلاح السياسي!
ولتكن ادانة من رفع الغطاء عنه فهوى من شاهق خطوة على طريق الاصلاح السياسي، وتوكيداً اضافياً لضرورته، اكثر منها محاسبة عن جريمة واحدة من جرائم الاعتداء على المال العام، او انتقاماً من عهد سابق او مجرد ارهاب مؤقت للفاسدين والمفسدين يلجئهم الى نفاق العهد الجديد بكل السبل واظهار التوبة حتى اذا امنوا عادوا الى سيرتهم الاولى مسلحين بالتميمة الرديئة: عفا الله عما مضى،
هذا اذا لم يسعوا الى اغراء العهد الجديد بالتمثل بالكلمة الشهيرة حول »بيت ابي سفيان«!!.