نشرت في “السفير”، 20 تموز 2006
لقد اخترنا الحياة! نحن نرفض الموت!.
بهذه الكلمات ختم فؤاد السنيورة خطابه المؤثر أمام السفراء العرب والأجانب المعتمدين لدى الدولة الجاري تهديمها في لبنان بآلة الحرب الإسرائيلية التي لا يشك أحد في قدرتها الفائقة على تدمير العمران.
النص يقارب الشعر، وفؤاد السنيورة ذواقة كلمة ولحن، لكن الجمهور الذي كان يسمعه مدرّب على تجاوز عواطفه، وهو يتقن تغليف مواقفه الجارحة بالتعابير المبهمة التي تومئ ولا تقول.
لقد أدى فؤاد السنيورة ما يرى أنه واجبه كمسؤول في (وعن) هذه الدولة المهددة بالتفكك والاندثار، تحت ضغط الهمجية الإسرائيلية، متحاشياً التوغل في حقل الألغام السياسية: أبلى بلاءً حسناً في توصيف الكارثة الإنسانية بأبعادها جميعاً، ليختم بتوجيه السؤال المركزي الذي يعرف جوابه، خصوصاً وقد سمعه كثيراً في الأيام القليلة الماضية، ولكنه اختار أن يلح عليه للتوكيد: أنتم تريدون دعم حكومة لبنان؟ أحقاً تريدون دعم حكومة لبنان؟ دعوني أخبركم، سيداتي سادتي، أن لا حكومة قادرة على الوقوف فوق أنقاض الوطن…
كان سفراء الكبار في غاية الانشراح: لقد أنجزوا، للتو، مهمة ترحيل رعاياهم عن الأرض التي كانت تتفجر بالفرح والأفكار والأنشطة المبدعة فصارت أرض الموت الإسرائيلي، وبالتالي فلم يعد ثمة ما يشغل بالهم، وتفرغوا للمتابعة والمراقبة وتقديم النصح والمشورة بالتروي وإعمال العقل والانصراف عن المغامرة بمناطحة الثور النووي..
لعل بعضهم قد تعاطف متأثراً، ولعل معظمهم قد غالب عواطفه حتى لا يفقد رصانته، لكنهم جميعاً قد انتبهوا بالتأكيد إلى أن الدعم المفتوح الذي قدمته دولهم عربية وأجنبية لهذه الحرب الإسرائيلية قد حوّل رئيس حكومة لبنان إلى ما يشبه مسؤول الإغاثة.
ولعلهم انتبهوا، وإن أغمضوا عيونهم حتى لا يظهر حرجهم، إلى أن الخطاب يدل، وإن لم يقلها السنيورة صراحة، على مسؤولية دولهم عن واقع أن إسرائيل فوّضت إلى نفسها مهمة الشرعية الدولية وقرّرت أن تنفذ بآلتها الحربية وبالنيابة عنها ما تراه مناسباً لحاضر هذه الدولة العنصرية ومستقبلها.
إن فؤاد السنيورة قد تعب من استقبال الوفود الدولية التي تلح عليه بإنذار واحد: هاتوا الجنديين الإسرائيليين الأسيرين وإلا… .لا وساطة. لا شفاعة. لا بعثات دولية تريد أن تناقش أساس الموضوع أو تبحث عن تسوية أو حل وسط. لقد اعتبر لبنان منطقة موبوءة، ففرض عليه الحجر الصحي، كأنه الطاعون. إسرائيل تقصف سيارات الإسعاف والتموين والأدوية، ولكنها تأذن للسفن رافعة أعلام الدول الكبرى وهي تتوافد لنقل رعاياها في إشارة منها واضحة لآلة الحرب الهمجية: أن اقصفي من البر والبحر والجو. اقتلي من تشائين، فلم يعد في لبنان إلا اللبنانيون.. واهدمي معالم الحضارة والتقدم. دمري البيوت ومراكز الإنتاج. اقتلي الأطفال والنساء والشيوخ. اقتلي الحياة في هذا البلد العاصي والمصر على حقه في الحياة بكرامة.
لم يحصل في أي حرب أن نفضت الدول جميعاً، العظمى والكبرى والمتوسطة، الأجنبية والعربية، يدها من المسؤولية عن تدمير دولة وتشريد شعب كامل، ثم أقعى مسؤولوها على أقفيتهم ينتظرون الخبر السار عن استسلام المقاومة، حتى لو كانت تعبّر عن وجدان شعبها، وحتى لو كانت قد تفرّدت فارتكبت مرة أخرى فعل خطف جنود لمبادلتهم بأسرى يحتجزهم العدو منذ عشرات السنين.
لكأن جندياً إسرائيلياً واحداً أهم من شعب فلسطين، ومن حقه في دولته على ما قد تمن عليه إسرائيل من أرضه ..
ولكأن جنديين إسرائيليين اثنين أغلى من لبنان الوطن الدولة وشعبه (لعل مما يداعب الغرور أن لبنان يساوي مرتين فلسطين..).
لقد تفضل الرئيس الفرنسي، صديق لبنان التاريخي، فطالب إسرائيل بإبقاء ممر آمن للبنانيين، لكي تصل الأم إلى طفلها بالحليب، لكي يصل الأبناء بأبيهم العجوز إلى الطبيب، لكي يمكن رفع الجرحى من بين الركام وإيصالهم إلى المستشفى، إن وُجد..
أما الدول العربية، لا سيما الغنية والأغنى من أغنى دول الأرض، فقد تفضلت بثلاثين من الفضة وبتموين لا يكفي قرية وببعض سيارات الإسعاف لنقل الشهداء إلى مدافنهم في بلداتهم البعيدة.
ومع التقدير لهذا الجهد الذي بذله فؤاد السنيورة في مخاطبة الضمير في هذه الدول التي لا تعترف في سياستها (ومصالحها) بالضمير، فإن السوابق تدل أنها لا تسمع مثل هذا النداء، ولكنها تبادر بغير دعوة إذا ما شعرت بأن الحرب الإسرائيلية عاجزة عن تحقيق أهدافها بآلة القتل وحدها، وأنه لا بد من وساطة تنتهي بحل وسط..
وفي هذا المجال فإن الكلمة تبقى لصمود لبنان، مقاومته التي تبدو هزيمتها مستحيلة، لأنها تقاتل بأرضها ولأرضها، وشعبها الذي بوقوفه وقفة رجل واحد خلف مقاومته.
وبعد إيقاف آلة الحرب الإسرائيلية المدمرة، من دون تنازل عن جوهر القضية، يمكن أن تفتح الصفحات للعتاب وحتى للحساب..
أما أمر اليوم فهو: حماية المقاومة لحماية لبنان.. من أن يتحول إلى أنقاض.