أكرمني المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية بدعوتي إلى هذا اللقاء، الذي ليس الاول، ولن يكون ـ بإذن الله ـ الأخير..
ولكن الإكرام زاد من حده بأن جعلني مرجعاً، في ما يتجاوز الصحافة المكتوبة إلى المواضيع ذات الصلة بالأصالة والمعاصرة، والعلاقة مع الفكر العربي والتحديات الثقافية والفكرية التي تواجه مستقبلنا العربي والاسلامي: وهذا ما يتجاوز تجربتي، على غناها، إلى آفاق وأبعاد أخرى لست أرى نفسي مؤهلاً للحديث فيها وعنها..
ومع تقديري لثقة الدكتور نبيل سرور، ولعله يعكس رأي هذا المركز الذي احفظ له الاحترام فان ما يمكنني الحديث عنه هو تجربتي في الصحافة، وهي طويلة، قبل “السفير” بسنوات طوال، ثم خلال ثلاث واربعين سنة من عمرها الغني، بكل المحن والظروف القاسية التي شهدت النسف اكثر من مرة، ومحاولة الاغتيال، والاعتداءات المتكررة على مكاتبنا والزملاء والعاملين في الجريدة او في المطبعة.. ثم بعدها.
لقد بدأت عملي في الصحافة في نهاية الخمسينات.. وكان الصراع على أشده بين التيار القومي العربي الذي سرعان ما حقق انجازه التاريخي الاول، بعد صد العدوان الثلاثي في خريف العام 1956 بإقامة اول دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث باندماج مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة تحت قيادة جمال عبد الناصر.
على هذا فقد كانت بيروت مؤهلة لان يجعل منها عبد الناصر، بالشراكة مع خصومه من أهل الرجعية والقطرية ـ عاصمة الصحافة العربية.
ولقد ساعدت القاهرة، او رعت عدداً كبيراً من الصحف والمجلات العربية الصادرة في بيروت، وجعلت منها عاصمة الكلمة والرأي المضاد، بينما لم يكن لمعظم الاقطار العربية، التي لم تكن قد اعلنت نفسها دولاً، حتى في عواصمها صحف يُعتَّد بها بالمعنى المهني ثم بالمعنى السياسي.
في تلك الفترة شهدت الصحافة في لبنان عهدها الذهبي، وشكلت منبراً ممتازاً للرأي والرأي الآخر، وان ظلت الفكرة العربية هي الغالبة.
بعد وفاة عبد الناصر، وسقوط دولة الوحدة وربما فكرها، جاء مع انور السادات عصر الصلح مع العدو الإسرائيلي.. فغابت مصر عن دورها الطليعي ولم تستطع اية عاصمة عربية أن تعوض دورها او تتقدم، لا سيما وأن دول النفط والغاز قد تصدرت المشهد الاعلامي، وهي بلا قضية الا حماية انظمتها الملكية وثرواتها الخرافية.
أيها الاصدقاء،
حتى لا أطيل في هذا المجال اكتفي بالقول إن الصحافة في لبنان تعيش ازمة مصيرية، لا سيما بعد دخول الكومبيوتر عالم الاعلام والثقافة وعلوم الحياة كافية، بسهولة استخدامه التي تنسج له صداقة مع الاطفال والفتية والشباب، فتغنيهم عن الصحافة المكتوبة التي قد لا تروي عطشهم إلى المعرفة، ولا هي تغنيهم عن مسايرة العصر.
أما عن الاصالة والمعاصرة والعلاقة مع الفكر الغربي والتحديات الثقافية والفكرية التي تواجه مستقبلنا العربي والاسلامي فالحديث يطول. ولعل البداية يجب أن تنطلق من الحديث عن البيت والعائلة ثم عن المؤامرة المستمرة على المدرسة الرسمية والجامعة الوطنية قبل ان نندفع لمهاجمة الاستعمار والامبريالية والصهيونية.
كان أهلنا يتباهون بنا ونحن نُلقي امام ضيوفهم أشعار المتنبي وأحمد شوقي وخليل مطران والاخطل الصغير.. أما الآن فنادراً ما حفظ التلامذة او حتى الطلاب شِعراً يطرب ويغنى، الا من هداه الله إلى الصح.
أيها الاصدقاء،
علينا الاعتراف بأن اجيالنا الجديدة تعيش حالة غربة مع واقعها: انها تسمع بالدولة ولا تجدها الا عبر زعامات الاقطاع المذهبي والديني الذي حل محل الاقطاع بالملكية واسترقاق الناس. وتسمع بالعروبة في حين انها تعيش واقعاً كيانياً مدولاً، تبدو معه واشنطن أقرب من دمشق، وباريس أقرب من القاهرة ولندن أقرب من بغداد.
لذلك فنحن نعيش ازمة هوية وليس لغة فقط.
والتغيير يحتاج إلى ما هو أكثر من هذا اللقاء الفكري الممتاز.
علينا أن نتغير، الا في هويتنا، ونتغير عبر اللحاق بالعصر، والا فاتنا القطار وانحصر خيارنا بين التغرب والهجانة التي تجعلنا اغراباً في بيئتنا وليس لنا مكان شرعي في عالمانا حيث تتغير العقائد والمفاهيم والعادات بسرعة الضوء.
أيها الاصدقاء،
أكتفي بهذا القدر. مفترضا أن النقاش سيغني هذا اللقاء، راجياً للمركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية كل التوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة القيت في المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية بتاريخ 20 شباط 2019