كتب نصري الصايغ:
حدثني ابي قال: انت لم تذق طعم الجوع الجاف. نحن عرفناه، انه قاتل.
قلت متى؟ قال: كنا عائلة مستورة. أب وأم وستة أطفال. وقعت الحرب الكونية. حصتنا من الحرب، مصادرة ابي. اخذوا جدك إلى “سفر برلك”. كان لي من العمر سبع سنوات. والاخت الكبيرة، عشر سنوات، والاخت الصغيرة بضعة أشهر. فقدت العائلة مُعيلها، كعامل في الدباغات. فمن أين نأكل؟ تحننت علينا ماكينة الخياطة. صارت جدتك خيَّاطة. عاد الخبز إلى بيتنا ومعه القليل من الطعام.
قلت: حُلت المشكلة قليلاً.
صمت ابي. ساحت عيناه في ماضيه. تعثرت كلماته إلى أن قال: جدتك أمنت لنا الخبز والدفء في تشغيل ماكينة الخياطة. بعد اسبوعين حضرت الدولة العلية، بشخص التحصِلدار، أي الجابي، طالبا تسديد ما علينا. لم يكن في البيت قطعة نقدية واحدة. فقرر مصادرة ماكينة الخياطة. اغتصب الآلة، وتركنا في عراء الجوع. رأت جدتك عيوننا الفارغة واليابسة. لأن الدمع تيبس في الجفون. جمعتنا. بكت قليلاً، ثم خرجت من البيت، وهي تقول: راجعة. لا تخافوا.
سألت إلى أين؟
صارت امي غسالة. تدور على البيوت الميسورة قليلاً، لتغسل وتنظف البيوت كخادمة، مقابل حفنة قليلة من المال، مع زوادة من الخبز احيانا. يومها انتشر وباء الجدري، وأوبئة أخرى. لم تطل الايام اصيبت جدتك بالجدري. كورونا ذلك الزمان. فأخذت منا، وانتزعت من بيننا، كي لا تنقل الينا العدوى. لم اعد إلى سؤال ابي. كان عليَّ أن اعرف، انهم سيعانون الجوع كثيراً. فجأة دمعت عينا ابي، وقد كان قد بلغ من العمر عتيًّا.
سألته: لماذا تبكي؟
قال: صرنا بلا أم ولا أب ولا رغيف ولا طعام. لا أمل عندنا الا بشفاء أمنا. كانت قد نُقلت إلى ما يشبه الكرنتينا، في كعب الوادي. بعيداً عن الضيعة. وكنا نذهب كل يوم لمحاولة رؤيتها والاطمئنان عليها. أُمنا أهم من رغيف الخبز. كان ممنوعاً الاتصال بها. انه زمن الوباء. كنا نصعد على أكتاف بعضنا، كي نطل من فسحة تحت السقف، كي نراها. ذات يوم تسلقنا اكتاف بعضنا، ولم نجدها. أخذوها ورموا عليها الكلس ودفنوها.
وران صمت حزين على ابي. كان كأنه يعيش ذلك التاريخ في هذا اليوم.
لم أسأل ابي بعد ذلك ابداً. لم اشأ أن يغرق في حزنه الصامت وعينيه النائمتين. كفاه ما عاناه. كفى عذابا وذكريات.
وذات يوم. سألته وكيف عشتم بعد فقدان الأم وسفر برلك الأب. قال لي بلاها. أصرّيت على ذلك، فاختصر: “كنت احمل اختي الرضيع واشحذ عليها”. ثم سكت طويلاً. لم أشأ أن اعرف أكثر. وبعد صمت. سرد لي ما يلي: “كنت احملها على كتفي وأدور. بضعة قروش كانت كافية لسد الجوع. وذات يوم. وفيما انا اتسول، شعرت بثقل اختي على كتفي. انزلتها عن رقبتي وحضنتها بين ذراعي. وفوجئت: ماتت اختي وانا اتسوَّل عليها”.
ومنذ ذلك الوقت لم أعد اسأله شيئاً. قلت: اخفف عنه وعني، إلى أن بادرني ذات يوم، بأن جدي قد عاد من سفر برلك حياً. وعندما دخل البيت، لم يعرفه ولن يتعرف علينا لهزالنا.
تلك كانت مأساة عائلة في زمن المجاعة، ولبنان، في ذلك الزمان، يشبه زماننا اللبناني، في القرن الواحد والعشرين. انه اليوم، على ابواب المجاعة. فقدت السيولة. معيل العائلة بلا معاش. إما صُرف او أُقيل او اقفلت في وجهه الابواب. الأولاد يفتشون عن لقمة وكتاب ومدرسة. الاكثرية الفقيرة، تزداد فقرا وعوزا. الاثرياء يزدادون ثراء. الدولة العلية الراهنة، لا تقوى الا على المعدمين والفقراء والطبقة الوسطى. اجترحت شيئا ضئيلاً اسمه الإعاشة، او المساعدات او السلة الغذائية. أكثر من نصف الشعب ذابت مداخرته. لم تعد تجد الابتسامة. الوجوه مكفهرة. التظاهرات في الشوارع والساحات. الشباب يطاردوهم الاستعادة لأيام خلت. العنف وليد طبيعي لحالة الفقر والعوز. انسداد الافق ينذر بالأعظم. اننا نشبه زمن المجاعة في الحرب الكونية. ما زلنا في البداية، والآتي اعظم… إلا اذا… (ضع الكلام المناسب).
كي لا تجوعوا أيها اللبنانيون… اعرفوا اولا من تسبب بجوعكم. تعرفوا على من سرق المعاش واللقمة، ومن حوَّل الوطن إلى مصيدة للمال الحرام. اتركوهم. كما تركوكم. تخلوا عنهم كما تخلوا عنكم. انهم معروفون بأسمائهم وصفاتهم، وانهم الحاكمون.
كي لا تجوعوا.. كي لا تُباع الاعراض من اجل رغيف. ارفعوا قبضاتكم.
لا تخافوا منهم. خوّفيهم قدر ما تستطيعون. ارفعوا قبضاتكم عالياً ثم انزلوها بعنف على سارقي اموالكم وحياتكم ومستقبلكم… لم يعد عندنا ما نخسره سوى قيودنا الطائفية، وحساباتنا السخيفة، وولاءاتنا الملتوية.
قولوا فقط: لن نجوع ابداً، وافتحوا الطريق للقمة الكرامة، ومرتب الاستحقاق، فلبنان ليس فقيرا ابداً، كل ما في الامر، أن أثرياءه، من الصرافين والسياسيين وكبار الموظفين والعملاء والحقيرين، قد مدوا اياديهم على المال الحلال، مالنا نحن، واخذوه في غفلة منا، وأحيانا تحت عيوننا.
بلى. أن العين الذكية والصغيرة، تقاوم المخرز.
بلى. أن غدا لناظره قريب.
فقط قولوا: لن نجوع. وتصرفوا على هذا الاساس. طاردوهم اينما رأيتموهم، تعاملوا معهم بالأقدام. إنهم يستحقون ذلك، بجدارة الحقارة.
هذا ليس كلاماً في السياسة ابداً. انه كلام في ألف باء الحياة. ومحرك هذا الكلام، هو الغضب المقدس الذي لا يهدأ.
وأختم بشعر لنازك الملائكة:
أغضب، أحبك غاضباً متمردا
في ثورة مشبوبةٍ وتمزقِ
أبغضت نوم النار فيك فكن لظى
كن عرق شوقٍ صارخٍ متحرقِ
اذن: قل قولك الاول والاخير: كن. نعم فقط: كن.
انه امر اليوم لك، انه امر كل يوم. إلى أن تحين ساعة سقوطهم… أنت المسؤول عن ذلك. فلتكن أنت عنوان الـ”نحن”.
قل فقط: لن نجوع. وتصرف على هذا الاساس.