نشرت هذه المقالة في 24 ايار 2000
كان الجنوب الشاعر، صار الجنوب الشعر.
كان الجنوب الحزن، صار الفرح جنوبياً.
كان الجنوب بوابة الخطر، صار الجنوب ولاَّدة الحرية ورايتها وفارسها وحادي موكب النصر.
كان الجنوب خارج السياسة، صارت السياسة خارج الجنوب هرطقة وانتهازية ومنافع واتفاقات إذعان.
كان الجنوب ميدان رماية وحقل تجارب لأسلحة القتل الأميركية في يد السفاح الإسرائيلي. صار الجيش الإسرائيلي حقل رماية لتدريب الأطفال في الجنوب على قهر الخوف واصطياد الوحش وفتح الطريق أمام نور الشمس.
وكان الاحتلال يرى الجنوب نموذجاً مصغراً لاحتمالات الفتنة والاقتتال الطائفي، صار الجنوب مطهراً يخلّص الضعفاء من أمراضهم وعللهم ووجوه نقصهم، ونموذجا باهرا لحلم الوطن.كان الاحتلال… صار الاحتلال ماضياً. صارت الحرية الحاضر والمستقبل.
* * *
أخرجت الأرض بشرها، لكأنه يوم النشور، فإذا الاحتلال نثار، وإذا مرتزقته رماد.
مواكب تسابق مواكب، ومواكب تجتهد لتلحق بالمواكب. من أين تنبع هذه الملايين التي أعطت للأرض بشرة الوجوه الخضراء، والتي منحت الجبال هامات الرجال ومنحت الفرح لون النصر؟!
تتفجر الساحات بنشوة الذين استعادوا أسماءهم وجدارتهم بشرف الانتماء إلى أرضهم التي لا هي نسيتهم ولا هم أنكروها. تستعيد القرى رهجة الأعراس المنسية، يستذكر الشيوخ خطوات الدبكة، يزحمهم الفتية الذين رضعوا وعد العودة فجعلوه عهدا، وانتضوا دماءهم فهزموا الطائرات والدبابات والصواريخ والبوارج والمدربين على المجازر الجماعية والمتخصصين في علم الاغتيال الفردي.
تطلق النساء الزغاريد فيستعدن رشاقة الصبايا ولثغة الغزل وخفر العرائس، ويدور الفرح على الناس، يغمرهم ويصحبهم إلى أفيائه. ليس خارج دائرة الفرح إلا مَن باع نفسه للشيطان فباعه، وحجزه عند شريط الموت ليكون عبرة لباعة الأوطان وقتلة حلم التحرير.
انثر أسماء الله الحسنى بين الناقورة وجبل الشيخ. للشهداء شميم رياح الجنة. والقرى شهداء كما أهلها. والقرى جنان عابقة بعطر أسماء الذين أعطونا أعمارهم لنعيش أحرارا ومضوا…
لم يعد الوطن في الذاكرة. خرج الوطن من مهجع الحلم ليكتسب ملامح هؤلاء الذين استعادوه فاستحقوه.
صار الوطن، مثلهم، مثالاً وقدوة. صار أمنية وأغنية وسيفا وباقة ورد وكتابا و”أمة خلقت لتبقى”. كل عربي يتباهى بأنه كان فيه أو أنه آت إليه ليتعلم فيعرف كيف تبنى الأوطان ويهزم الطواغيت.
* * *
حين أطل الفجر متعجلاً كان صنّاعه قد سبقوه، وبددوا الظلمة بأنوار عيونهم وابتسامات التشوق إلى ساعة المواجهة الحاسمة: سيخرجونه اليوم. لم تكن المفاجأة إلا في سرعة الإنجاز. لم يكن للخوف مكان أو مصدر. رحل الخائفون مع “المخيف” الذي لم يعد يخيف إلا مَن يطلب عذرا للرحيل والحصول على جواز سفر “محترم”!
تقدموا يستظلون أسماء شهدائهم ويسبقهم وهج دمائهم. فتحت الأرض التي تعرفهم واحدا واحدا قلبها وذراعيها ولفظت الألغام المزروعة في طريقهم وكشفت الكمائن ومخازن الذخيرة والدبابات والآليات التي لم تعد تفيد في حماية المذعورين فهربوا من وجه الصوت الصارخ فيهم: ماذا فعلت بأخيك؟
… لكن وزير الداخلية الإسرائيلية أشفق عليهم فوعد بأن يمنح بعضهم تأشيرات كسياح، بينما كان شارون يحاضر في الأخلاق: لا أستطيع النظر إلى عيونهم، لقد قاتلوا إلى جانبنا 25 سنة وها نحن نخونهم!!
يعرفون الخيانة في إسرائيل!
25 سنة… ها هي تندم في 25 ساعة، أمام هاته الملايين من الآتين من رحم الشهادة، يغزلون الفجر ببريق عيونهم ويصنعون عصرنا الجديد.
* * *
لم تخرج إسرائيل من الجنوب وحده. لم تخرج من لبنان فحسب. سيتوالى الخروج فصولاً، ولو بعد حين. لن ينسى عربي واحد “المعجزة” التي رآها تتحقق أمام عينيه، بالصوت والصورة، لن ينسى وجوه هؤلاء العائدين بتواضع صنّاع المجد، وبساطة الإنسان الطبيعي، غليظ الملامح، أشعث الشعر، الهادئ كجبل، الواثق من قدراته لأنه تحرر من خوفه بالمواجهة.هذه هي الطريق، وها هو الدليل، وها هي النتيجة مشعة، بهية، ندية وتحمل ملامح النصر كاملاً بغير ادعاءات وتهويل وتبجح فارغ.
* * *
… وماذا عن هؤلاء الذين في فلسطين يسمعون ويرون المشهد كاملاً، بالعين المجردة، وينكشف لهم “الجبار” الإسرائيلي وهو ينسحب مدحوراً؟!
لا تنفع العباءة الدولية في إخفاء أو طمس واقع الهزيمة، إسرائيلياً.
ولا ينقص تواضع مجاهدي التحرير من وهج انتصارهم المؤزر.
اللعبة مكشوفة واللجوء إلى القرار الدولي مجرد مهرب من الاعتراف بالفشل في لبنان، ووسيلة لمحاصرة سوريا وإرباكها.
لكن الهزيمة فضاحة، لا يمكن سترها أو تمويهها أو وقف تداعياتها المنطقية. وها هي المقاومة تقف على “الحد” وسلاحها بيدها، وقلب “العدو” في مرمى نيرانها.بقي أن تنتقل الدولة إلى حيث يجب أن تكون. الى حيث الوطن.
لقد حفظ المجاهدون للسلاح شرفه، فلم تقع حادثة اعتداء واحدة، ولم يتخذ أحد لنفسه حق محاسبة الآخرين من “المتعاملين” أو من باعة أوطانهم. الكل ترك للدولة ان تقوم بدور القاضي والمجازي والديّان.
لقد حرَّر الجنوب الوطن.
الآن دور الدولة في أن تحمي الوطن الذي استعاد اسمه وملامحه ووهجه واستحق أن يتشرف واحدنا بالانتماء إليه.
وحماية النصر قد تكون أخطر من تحقيقه.
والدولة، والشعب ضمنها ومعها، مطالبة بحماية مجد النصر المغزول بدم الشهداء.