ارتكب جورج قرداحي، قولاً سياسياً عادياً، في زمن الغلط. ما قاله، لا جديد فيه ولا هو من اختصاصه ابداً. كان يمكن نسيانه بعد لحظات، لأنه عادي ومكرر ومتداول وتتبناه شرائح مناوئة للسعودية، سواء هنا في لبنان أم في غيره من كيانات الصمت والقمع، حيث اللجام في فم الشعوب العربية، وحيث الكلام ممنوع والتفكير خطر والفعل جريمة والسخرية كارثة والكاريكاتور حرام سياسي.
كلام جورج قرداحي العادي، تحوّل بعد توزيره المدعوم جداً الى منصة لإطلاق العنان للرمايات الانتخابية. جورج قرداحي هو الدرجة الاخيرة من السلّم الذي تسلقته السعودية في معاداتها العلنية والمبرمة لفريق لبناني يخوض معركة الحوثيين من لبنان.
إذاً، لا جديد، سوى ان السعودية كانت بحاجة الى هذه المنصة، ففتحت النيران الدبلوماسية العاتية، واصابت لبنان بالفزع، بل بالهلع، فيما هو غارق بعشرات الازمات الوجودية والمالية والغذائية والكهربائية وكل ما له علاقة بعيش الكفاف.. أسقط لبنان بالكلام أولاً، ثم بالعقوبات تالياً. ولا لزوم البتة في حصر الكلام على ما جاء على لسان القرداحي من كلام.
من زمان. قبل اندلاع الفتنة المارونية الدرزية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وقع خلاف بين ولدين بلبنان “الكِلة” في بيت مري. الأول ماروني والثاني درزي فاشتعلت المناطق ودارت حرب طائفية، استدعت تدخل الدول العظمى آنذاك إلى جانب السلطة، لوضع حدٍ توافقي بين المذهبين. نحن اليوم، من سلالة تلك الحرب. حرب أرست ثنائية مزمنة، تفرعت عنها رباعية راهناً، موارنة وسنة وشيعة ودروز.
لا عتب أبداً على ما يجري راهناً في لبنان. إنه وفيٌ لجذوره واعمدته المتداعية: نظام القائمقاميتين. هو الأب الروحي للبنان، والمتصرفية، هي الحاضن الدائم الذي يقمع النزاعات. هذا هو لبنان. فما الجديد الآن؟
لا جديد. لبنان ساحة مشاعية للقوى الخارجية، بإرادة ابنائه. لم يوفق اللبنانيون بأن يكونوا لبنانيين، لأن اللبنانية كانتماء يسبقها ويتفوق عليها الانتماء الطائفي. ولا داعي لتكرار المشاهد التي كان فيها اللبنانيون، يستضيفون ويستدعون ويشتهون، أن تتدخل، دول اجنبية واقليمية، قريبة أو بعيدة، لتكون سنداً لطائفة ضد طائفة أخرى. علينا أن نحفظ هذا الدرس جيداً. لبنان بلا أسوار، وأبوابه مشرعة لكل طارق بقبضته أو بماله أو سلاحه.
لبنان الطائف، سقط من زمان. لبنان السيد المستقل مستحيل. لم يصدف أن كان كذلك. وعليه، فإن لبنان اليوم، يمثل أدواراً قام بأدائها مراراً. إنه موزع الولاءات. وهو يحشد قواه الطوائفية لخوض معركة، يخسر فيها اللبنانيون ما تبقى لهم من فتات.
إذاً، جورج قرداحي، أشعل فتيلاً من دون قصد.
لبنان، معسكر في جبهتين اثنتين. جبهة الدول والانظمة والاحزاب الممانعة، من المحيط إلى البحر الابيض المتوسط، بزعامة ايرانية واضحة الاهداف، وأذرع مسلحة، ووجهة مبرمة، تناوئ الولايات المتحدة ومن معها، وتدعم القوى التي تعادي “اسرائيل” وتصّوب عليه اسلحتها.
الجبهة الثانية، وتضم الولايات المتحدة الداعم الدائم (عالعمياني) لإسرائيل، ومن يسالمها ويصالحها ويطبّع معها، إلى جانب معظم دول الخليج العربي، ممالك وإمارات، إلى آخر القافلة التي تتحضر، للتنازل. فيما “محور المقاومة والممانعة”، يستعد دائماً للمنازلة.. وبين التنازل والمنازلة، وقع لبنان. ومن يظن أن ما يحصل في لبنان، هو لبناني بحت، عليه أن يدرس السياسة جيداً. لا وجود لصراع محلي نقي وصاف. دائماً هناك أذرع وقبضات وأموال وأسلحة.
واضح، وضوح الشمس، أن لبنان لم يلتئم ولم يلتئم ولن.. والسبب، انه ليس دولة تقف عند حدودها وتصون شعبها. لبنان، كان دائماً، برسم الايجار. والسبب، أن الطوائفية، تجمع وتفرز معاً. لبنانية اللبناني طائفته ومذهبه. قلنا ذلك مراراً. وعليه، في الراهن الحاضر، الشيعة مع ايران، في لبنان، وفي اليمن، وفي العراق، وفي البحرين وفي سوريا وفي.. افغانستان ايضاً. السحابة الشيعية تغطي هذه الجغرافيا، بحكم الانتماء المذهبي. فيما، الدول السنية، المتأصلة في الكيانات العربية، من المحيط إلى الخليج، تخلت عن “العروبة الجامعة” وفضلت التكاتف والتعاضد السني، في مواجهة إيران الشيعية، وهذا طبيعي. غبيٌ من يتفاءل بأن وداً ممكناً، أو تعاطفاً ما، على سبيل المجاملة، ممكن. منذ انتصار الثورة في إيران، شنّت الدول السنية العقائدية (البعث العراقي) حرباً لوأد الثورة الايرانية وهي في بداياتها. دعمتها فرنسا والولايات المتحدة و.. لكن إيران الجريحة استطاعت أن تصمد في وجه كل هذه القوى. وقفت متحدية، بشعار جديد: “القدس قُبلتنا”، وأميركا.. “الشيطان الأكبر”.
ولبنان، واحد من الدول التي انقسمت نصفين. قسم مع إيران، وقسم مع العراق والسعودية ودول الخليج وأميركا.
لن نستذكر هنا، ما قامت به اسرائيل من حروب في لبنان وفلسطين. لن نذكر أن اللبنانيين انقسموا مراراً وكانت أذرعهم ممدودة للخارج. ربما، نصف لبنان اليوم او أقل قليلاً، لا تعنيه “اسرائيل” البتة. لا يُعلن عن ذلك، ولكنه لا يأتي على ذكرها كعدو. هو يرفع شعار السيادة (وهو شعار ساقط، لأن لبنان لم يكن يوماً مستقلاً) ونزع السلاح، أو وضع السلاح بإمرة مؤسسات الدولة (مَلّا مؤسسات).
كل هذا من المستحيلات. هذا السلاح شقيق لكل الاسلحة المُشرَّعة نيرانها، من اليمن إلى غزة.. ففلسطين.
لبنان هو ساحة إذاً، واللبنانيون يتقاسمون هذه الساحة. ومن الوقائع، أن السياسات في لبنان، ترسمها الزعامات المذهبية. ولكل مذهب مرجعية خارجية. كان جمال عبد الناصر مرجعية للسنة، يوم كانت قومية عربية، ثم، وبعد مخاضات وانكسارات انقلبت على العروبة، ووجدت في السعودية حاضنتها. لبنان، بطبيعته وبنيته، اليوم، موزع بين إيران والسعودية، وحربهم في اليمن المكلفة والمستنزفة، لها في لبنان من يقف معها، سنّة وموارنة، طلّقوا مارونيتهم التاريخية، فقبلتهم السعودية وتبنتهم، إلى اجل غير معروف.
هل في ذلك عجب؟ لا، وألف لا. لبنان محطة عبور القوى. هو ملتقى الصراعات. هو الساحات المتنافسة والمتصارعة.. هو ايراني من جهة، وسعودي من جهة أخرى، وهو يخوِّن خصومه، ولكنه لا يجد عيباً في أن يكون مع عدوه وخصمه، في حكومة واحدة، وفي مجلس نيابي واحد، واحياناً على لوائح انتخابية واحدة.
السعودية أقدمت على فتح معركة مع إيران في لبنان، ولو كان ذلك سيؤدي إلى خراب ما تبقى من لبنان. لبنان المصاب بكيانه وسياسته وقياداته ومؤسساته وإعلامه وجامعاته وأمواله وغذائه ونفطه ودوائه.. لبنان الفقير جداً، بنسبة 80 في المئة ممن تبقى من ناسه، معرض لعقوبات اقتصادية، تصيبه في ما تبقى من لقمة عيش صعبة المنال.
المشكلة ليست في ما قاله قرداحي او سواه. مربط المشكلة هنا: لبنان ساحة معركة بين إيران وفلسطين القضية من جهة، وبين السعودية ومن معها من دول الخليج، ومن مثلها كالولايات المتحدة الاميركية و.. و..
السعودية رفعت الهراوة الاقتصادية. ساندتها امارات وممالك. رد عليها لبنان بخلية ازمة بحضور أميركي رسمي.
“الشقيق” الاميركي مطالب بأن يعقلن “الأشقاء العرب”. كي لا يُدخل لبنان في نفق الشقاء.
إلى أن تنفرج الازمة أو تنفجر، ننتظر ما صار عادة اسبوعية، أي مسلسل المفاجآت المريعة. طارق البيطار. الطيونة. جورج قرداحي ليس الخاتمة. إن غداً لناظره قريب. “الله يستر”.