لكأننا نعيش أحلامنا.. او اننا في الطريق إلى تحقيقها أن لم تلتهمها الكوابيس:
ـ انتفاضة شعبية رائعة في لبنان تحتشد جماهير في مختلف ساحات المدن وضواحيها، منذ شهرين على التوالي من بيروت إلى طرابلس فعكار، ومن صيدا إلى صور فالنبطية، ومن زحلة إلى بعلبك والهرمل، ومن جل الديب إلى الشويفات وبعقلين في جبل لبنان..
آلاف مؤلفة من جماهير الشعب في لبنان يتلاقون في قلب بيروت وبعض ساحاتها وشوارعها وميادينها يهتفون بـ”اسقاط النظام”!
ـ الانتفاضة الشعبية العارمة في الجزائر تملأ جماهير العاصمة والمدن في مختلف المحافظات: لا أقنعتهم استقالة الرئيس المشلول بوتفليقة، ولا هم سلموا بالحكومة البديلة برئاسة الجنرال رئيس الاركان، وهم كذلك يرفضون الرئاسية التي دعا اليها “الجنرال” ويطالبون بانتخابات نيابية قبل الرئاسة.. والا ظلوا في الشارع شهراً ثامناً.
ـ ..وها هو شعب العراق ينتفض وينزل إلى الشوارع في بغداد والنجف وكربلاء والناصرية، ويتساقط القتلى برصاص القوات الخاصة، فيحمل الشباب رفاقهم الشهداء، ويعودون مع الغد إلى الشارع..
تستقيل الحكومة فلا يتراجعون بل يواصلون تظاهرات الاحتجاج مطالبين بحكومة من خارج الطغمة السياسية الفاسدة التي نهبت خيرات اهل الرافدين الذين يعانون جوع الفقر والبطالة..
ـ ومن قبل ظل شعب السودان في شوارع الخرطوم شهوراً طويلة قبل أن ينجح في خلع المشير حسن البشير، وقبل أن ينزل إلى الشارع، مرة أخرى، رفضاً للحكم العسكري حتى امكن التوصل إلى صيغة توافقية يتولى الحكم اهل الثورة مع شراكة مؤثرة للعسكر..
ـ بالمقابل فان شعب ليبيا قد أعيد في ما يبدو إلى ماضيه الملكي:
فقد “استقل” الجنرال المتقاعد الذي اعاد نفسه إلى الخدمة والى التحرك عسكريا من بنغازي لاحتلال العاصمة طرابلس، في حين “استقلت” سبها في الجنوب او اسقطت سهواً من الدولة العتيدة..
وبرغم الرعاية الاممية الخاصة وتعيين ممثل من الدبلوماسيين الناجحين (هو وزير سابق في لبنان)، فان الوساطة لم تنجح حتى الساعة، لان “الدول” قد اندفعت تتدخل، فاستقبلت انقره الجنرال الذي تزين صدره بالأوسمة التي نالها من دون أن يحارب، وعقدت معه اتفاقات نفطية احتجت عليها “الدول” (اليونان وقبرص وحكومة طرابلس).. لكن الرئيس التركي اردوغان اصر عليها لسبب وجيه جداً: النفط!.
ـ نعود إلى لبنان البلا حكومة، بعد استقالة سعد الحريري ورفضه العودة إلى هذا المنصب (اقله حتى الساعة، وربما بقصد ترميم قاعدته الشعبية).
اما الجماهير فتنزل كل يوم، ويتكثف حضورها في الساحات والميادين ايام العطل الرسمية (لا سيما الاحد..)
حتى اليوم ما زال لبنان بلا حكومة (منذ 17 /10/2019)… وقد تأخر رئيس الجمهورية اكثر من خمسين يوما عن الدعوة إلى استشارات نيابية يمكن أن تسمي “البديل” المنتظر. وبرغم تحديد موعد، اخيراً، لهذه الاستشارات فليس اكيد انها ستنتهي باختيار بديل، برغم تداول بعض الاسماء في الايام الاخيرة، وبينهم رجل اعمال ناجح ولكنه بلا خبرة او تجربة سياسية، وان كانت له شبكة علاقات واسعة تتجاوز إلى بعض الدول العربية (سوريا والعراق والامارات..)
وبرغم ذلك فقد اضطر إلى الاعتذار عن قبول المهمة المستحيلة.
ـ على الضفة الاخرى، يبدو أن السعودية ومعها دولة الامارات قد يئست من تحقيق نصر حقيقي في اليمن، برغم محاولة تقسيمه واعادته إلى ماضي الدولة (الشمال بعاصمته صنعاء والجنوب بعاصمته عدن..) وشعب اليمن ينزف، شمالاً وجنوباً، ويموت رجاله في المعارك العبثية، بينما يموت اطفاله بالكوليرا والجوع..
ويبدو أن دولة الامارات التي يقل عدد سكانها عن سكان صنعاء او عدن، قد فوضت السعودية، اخيراً، البحث عن تسوية تحفظ لهما ماء الوجه، لكن شعب اليمن ما زال ينزف مدنه (صنعاء وحضرموت والحديدة المطلة على باب المندب فضلاً عن عدن التي كانت الميناء الاخطر لبريطانيا حين كانت تستعمرها).
وهكذا فقد فقدت السعودية التي “تستضيف” الرئيس اليمني فاقد الصلاحية الفيلد مارشال عبد ربه منصور هادي (بعد خلع علي عبدالله صالح واغتياله بينما هو في طريقه إلى مسقط رأسه، شمالي صنعاء).
… ومع أن انتفاضة البوعزيزي في تونس قد نجحت في خلع الدكتاتور بن علي وزوجته الراقصة، وأعادت الديمقراطية إلى نصابها، فقد استطاع شعبها خوص انتخابات نيابية انتهت بانتخابات رئيس جديد للجمهورية هو من يشهد له تاريخ بعلو مستوى ثقافته وخبرته السياسية (عمل في جامعة الدول العربية في المجال العلمي والثقافي لفترة طويلة) الرئيس قيس سعيد ولقد باشر مهامه ليواجه خلافات بين الاحزاب في المجلس النيابي حول تشكيل الحكومة الجديدة.. ولكنها عقبة بسيطة اذا ما قيست بما عانته تونس في ماضيها القريب..
خلاصة القول أن الوطن العربي بمجمل اقطاره، عدا ممالك النفط واماراته، التي تغير اسرها الملوك واولياء العهود عبر انقلابات صامتة لكن العروش تبقى صامدة على حالها.. (تنازل امير قطر خليفة بن حمد آل ثاني لنجله تميم ليتفرغ للسياحة في يخته عبر البحار) او “اجبار” الامير محمد بن سلمان ابن عمه الامير محمد بن نايف على التنازل عن ولاية العهد وهو راكع عند قدميه..
..الوطن العربي بمجمل اقطاره، الغنية منها والفقيرة، ما زال تائها عن مستقبله المرتجى..
.. وها هي سوريا ما تزال غارقة في دمها، بينما تتقدم قوات تركيا اردوغان لاحتلال بعض شمالها بذريعة مكافحة الاكراد المنتفضين ضد التدخل التركي الذي كان يهيمن على مساحة واسعة ويحرض اهلها ضد النظام في دمشق.
أين الغد العربي ومن يستطيع رسم معالمه..
لا بد أن ننتظر اكتمال هذا الحراك الشعبي الذي أسقط انظمة وفشل في اسقاط أخرى، من دون أن نستطيع الحكم على التجربة التي لما تنته ولما تستقر الانظمة التي استولدتها،
والحكم مرجأ قبل الحكم في انتظار ثمار هذه التجربة التي تؤكد رفض هذه الامة بمجملها لحياة الذل والحاجة والقمع وامتهان حقوق انسانها.
وللحكاية بقية..
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية