هل أنت جائع؟ هل فقدت مدخراتك؟ هل تقزم راتبك ونحل؟ هل شعرت بالذل على عتبات محطات الوقود؟ هل سفكت عرقاً وألماً لتجد دواء وما استطعت شراءه؟ … هل تبتسم أحيانا. أزارك الإحباط، أراودك اليأس؟ أين وضعت قبضة يدك؟ من أنت لتتحمل ما لا يُحتمل؟ من مثلك أكثرية كبيرة. يقال، إن الطبقة الوسطى صارت في الطابق السفلي. أي، على الأرض يا حكم… هذه الأسئلة وغيرها الكثير لا تكفي للجواب على السؤال: “ماذا بقي للإنسان في لبنان”؟ الإجابة ليست سهلة. لقد أصيب اللبناني في جيبه وقلبه وعقله. كل الطرقات في الداخل مفتوحة على جحيم ومعاناة. لم يعد الإنسان اللبناني سوياً أبداً. أحيانا، يكذب على نفسه ويقول: “شدة وتزول”. ثم يرفع رأسه قليلاً: لا أفق في هذه العتمة. يشعر أنه في نفق، ويتساءل متى يولد بصيص الأمل… يستنتج، أنه في حضرة المستحيل.
هو لن يتساءل عن الأسباب. يعرفها. لا يحذف أحداً من أسماء المرتكبين. كلهم عار… إلا إذا كان طائفيا مدمناً. يلوم ويغضب ويشتم خصومه من سادة الطوائف. هو مستعد أن يتحمل نكبته إذا جاءته من طائفته. الطائفي يصدر عفواً عن زعيمه. ويُلبس خصومه كل لعنات المرحلة. يقول في نفسه “لولاه، زعيمنا، لهلكنا”. يقنع نفسه بالمستحيل… أما الطافرون من طوائفهم من زمان، فتلاحقهم لعنة العجز. يتحسرون على المرحوم ” 17 تشرين”. يلومون الجميع، ولا يلومون أنفسهم. يعرفون الطائفية جيداً، ولا ينالون منها في موقعة. الطائفية قلاع مزمنة لا تقتلع بالكلمات أبداً. وبالشعارات أبداً. وبالقبضات أبداً. الطائفية، هي الأساس للكيان. قد يذوب الكيان ويتفتت، لكن الطائفية تتجدد. الشواهد كثيرة. ما يحدث في دنيا العرب، ينذر بعودة التوحش المذهبي والطائفي إلى أجل غير مسمى.
الديكتاتورية الطائفية في لبنان، هي من أعتى الديكتاتورية العربية، من المحيط إلى الخليج. الطائفية في لبنان، أقسى من القمع الرسمي. ارتكبت حروباً دينية ومذهبية وأهلية مراراً، دمرت مدناً وقرى، قتلت عشرات الآلاف، هجرت مئات الآلاف، وخرجت كلها رابحة. بعناية القوى الخارجية ودعمها، وتوزيعها السلطة مجدداً على الطوائف… صحيح أن الطائفية في زمنها السخي لا تقتل، لأنها تكون مهتمة بجني المكاسب السياسية والمالية. تسرق ولا تتورع. تزور ولا تخاف.
إنه فعلاً وطن معتل، ولا شفاء له.
أما بعد.
الآن، وقد افلسنا في مواجهة الطائفية مراراً. ينتصب السؤال: هل هناك بديل لهذا النظام، ولهذه القبائل الهمجية التي احتلت الكيان، بتعدد رؤوسها ورؤسائها؟ تسأل عن الاكثرية العددية اللاطائفية. هل هم قادرون على لم شملهم ولو مرة… الإنهيار الحالي، هو فرصة راهنة، لكل المدنيين والعلمانيين والديموقراطيين والأحرار، الذين طلقوا الطوائفيات، هي فرصتهم في رسم معالم الطريق الطويل والصعب، والبدء بمسيرة التغيير.
لا يبدو من التجارب الراهنة، أن هناك من هو قادر على ذلك. التيارات والأحزاب الدينية والمذهبية والطائفية، متماسكة ومدعومة خارجياً. وهي قادرة على الإمساك بمناطقها ومواقعها. أما الآخرون الذين ملأوا الساحات مراراً وتكراراً، فلم يتمكنوا من وضع لبنة أولى لتكون الخطوة الأولى، لتكوين قوة قادرة على مقارعة الطائفية في مواقعها… لم يحدث ذلك. الأحزاب العلمانية، تجيد الكلام واليسار يجيد الشعار. الآخرون، مترسوا خلف كلمات.
أين هم “ثوار17 تشرين”؟
ذابوا. صاروا صدى. كل مجموعة رأت في تجمعها الحل. فتحت حوارات ونقاشات بين المجموعات. شهدت بعضها، وشاركت معها، وخرجت بائسا منها… إنهم يتفننون في إحراج بعضهم بعضاً. يختلفون على جملة. تأخذ المعاناة أسابيع. يرفضون العلمانية ويقبلون المدنية. يريدون نظاما ديموقراطياً، بقانون انتخابي طائفي. إلى آخره من الاقتراحات التعجيزية. لا يعرفون ألفباء التاريخ. التغيير لا يبدأ بالكلمات، بل بالقفزات والسياسة والممكن والمرحلي… كانوا يتناقشون وكأن السلطة جاهزة لتكون بين أيديهم غداً. لم يعرفوا، أن المطلوب، هو الفوز بالجولة الأولى، والتي تتطلب الإتفاق على برنامج مرحلي ملزم. وأول البرنامج، الصمود ومواجهة التكفير الطائفي للجماهير الغاضبة والطامحة إلى التغيير.
الأحزاب الطائفية المعارضة كانت أكثر فعالية من كل التجمعات والحلقات الميدانية. هذه الأحزاب، قفزت إلى منصة “17 تشرين” وأسرتها في الشارع والنظام فيما ظلت “قوى التغيير” العلمانية تتخبط في الإنشاء الكلامي. والمواقف المتنافرة… لا أحد أبداً كان يدرك أن المهمة الأولى، هي تكوين تكتل يتحدى عملياً في مواقع شتى ما يجعله خصما ميدانياً دائماً… إن الأنانيات السياسية لدى المناضلين، تطغى على واجب الإنحناء لشروط التغيير.
عانيت من هذا الشقاق الوجودي. لقد كان بالنسبة لي أخطر من الشقاق الطائفي. لم أشعر أنهم مواطنون. شعرت أنهم فئويون…وكان ما كان، حتى كادوا يزولون. فوداعاً ” 17 تشرين”.
أما بعد…
نعود إلى مأساتنا. لا نهاية لها. قوى السلطة تكسب المعركة غداً، فتلحق بها جموع وقطعان الطوائف، تمهيداً لإعادتهم إلى مواقعهم. الإنتخابات ستكون طائفية جداً. لذلك، سيفوز “الثنائي الشيعي”، ويتقاسم الثنائي الماروني أصوات المسيحيين، ويجدد التيار السني حضوره وحظوظه، ولا منافسة مع المرجعية الدرزية، ومن تبقى من قوى هي “فراطة” نيابية ومجرد أرقام.
غداً يعودون، مع قلة من المرشحين غير الحزبيين وغير الطائفيين. سيكونون مجرد تلوينة صغيرة في مشهد أسود ومعروف…
فلنعترف: الطائفيون أدرى بشباب الكيان. أما الكثرة الغاضبة والمفجوعة و”المحترق سلافها”، فلن يكون لها، أي بصيص ضوء، ليروا من خلاله أفقاً جديداً، ولو بعد سنوات.
بالأمس، كانت العتمة الشاملة.
إنها بالعقل، العتمة الطائفية الشاملة.
حتى “سراج الليل” اختفى من لبنان… فلنتجرع المرارة. في زمن الحثالات السياسية والطائفية. وللعلمانيين نقول: “تعيشوا وتاكلوا غيرها”. بكل أسف وعسى أن أكون مخطئاً.
إنها نهاية تدعو للرثاء والبكاء.