I التقينا في الأمكنة جميعا إلا حيث يجب
يوم السبت، الثامن من تموز سنة 1972، وعند الساعة الثامنة صباحا، دوى انفجار مكتوم في محلة مار تقلا الحازمية، في الضاحية الشمالية لبيروت: كانت تلك اول عملية اغتيال ينفذها الموساد الإسرائيلي في لبنان بالتفجير عن بعد، وانتثر جسد غسان كنفاني ودمه فغطى اشجار الزيتون والبرتقال والهضبة الخضراء جميعا.. بل لعله قد بلغ عكا، مسقط رأس غسان.
في الذكرى الخامسة والعشرين لغياب هذا القلم المبدع، الروائي، القاص، الكاتب السياسي والصحافي المتميز، الرسام والنحات والانسان المناضل والممتلئ ايمانا بحقه في أرضه، كان لا بد من تجديد التواصل مع احد اصدقاء العمر.
بهيا كالحلم، عفيا كالضمير، نقيا كاشراقة فجر لا تعمر طويلا لكنها تنجز دورها التاريخي اذ تثبت، كل صباح، ان الظلام ليس سدا من الصلب، بل يمكن اختراقه واسقاط عتمته الكثيفة ومعها الاشباح والأوهام والخرافات، ليسود النور ومعه الحقائق الاصلية التي تنفع الانسان في حاضره وفي مستقبله.
وأنت على البعد تنتصب ببنيتك التي غادرتها الامراض المنهكة، شاهدا علينا وعلى عصرنا، بعدك، وقد داخلت ابتسامة عينيك مسحة من السخرية المرة تجعلها حزنا مصفى.
انك فينا ومن حولنا، تملأ علينا الامكنة، تحف بنا، تواكبنا، تلاعبنا، تسائلنا، تجادلنا، تحاسبنا: اينكم عني؟ لماذا ابتعدتم فأضعتم الطريق ومعه دمي المسفوح زيتونا ورمانا وبرتقالا وياسمين؟!.
ولعلك تصرخ بنا: أينكم من فلسطين؟! اينكم من عكا التي خمنت انني سبقت اليها، وانكم قادمون اليّ بعدي حتى لا اكون فيها ايضا لاجئا استمد هويتي من الاحتلال وليس من ارضي ودمي الذي انتثر فملأ الأفق بين مار تقلا في الحازمية وبين قلعتها التي طالما صمدت فعطلت الغزاة ريثما يصل الأهل المحررون؟!.
صعب الحديث عنك بصيغة الغائب، يا غسان.
وها نحن نتخاطب من على البعد ونحن لا نعرف عل وجه الدقة أيّنا الحاضر برغم غيابه، وأيّنا الغائب برغم حضوره.. فها نحن نتكاثر بالملايين، كل عام، ولا نحضر، وها انك على غيابك اعظم حضورا واعمق تأثيرا، تتغلغل ملامحك الوديعة وكلماتك المشعة في الوجدان فتستبقيك فينا وتنشرك مع الريح وأشعة الشمس لتصطنع هذه المرة الرجال الرجال.
يمتد بنا الزمن وتمتد فيه وفينا، وتلتمع في افقنا مثل نجمة: من بعيد تبعث بخيط من نورها، لكنها ترسم الأفق وتطالبنا بأن نرفع رؤوسنا الى فوق، وتقوم علامة وحدا حتى لا نضيع عن الطريق او يضيع منا الطريق.
ولأنت مثل فلسطين يا غسان: تغيب فلا تغيب، وتُغتال ألف مرة في اليوم فلا تموت ولا تندثر.
يكاد اسمك يكون مرادفا لها، واشتقاقا منها. انه الاسم الموصول بالقضية.
ما يزال الانفجار يدوي في وجداننا ويعلمنا الاسماء جميعا: اسماء المدن والقرى، الدساكر والمزارع، تلك التي ابيد أهلها فيها فسكنوا وجدان الأمة، وتلك التي حمل اهلها وجعهم فنشروه على امتداد العالم.. ويعلمنا ايضا اسماء الانهار والشجر، الجبال والهضاب والمروج والوديان والخلجان والبحور بألوانها وصفاتها المنسية.
لفلسطين الاسماء الحسنى للشهداء الذين مضوا والذين في الطريق والذين سيولدون وهم منذورون للشهادة.
وانت مثل نقطة الفاء يا غسان.
***
أحفظ لغسان كنفاني انه ادخلني الى قلب فلسطين، وقد كنت وجيلي نقف على بابها، ونحبها بلسان الشعراء من دون ان نعرفها.
كذلك احفظ لغسان كنفاني انه فتح امامي، وجيلي، الباب لمعرفة إسرائيل معرفة تفصيلية، بأحزابها وقواها السياسية وتركيبتها الاجتماعية والتيارات الدينية ومؤسساتها العسكرية والأمنية.
كانت فلسطين بلا خريطة. شحنة عاطفية عالية التوتر مبهمة الملامح، فانتزعها غسان من الخطاب الحماسي المفرغ من المضمون، على طريقة »يا فلسطين جينالك، جينا وجينا جينالك« واعادها ارضا تنبت البرتقال والياسمين ولكنها تنبت قبل ذلك الرجال والنساء والاطفال.
اعاد فلسطين الى ارضها، واعاد الأرض الى تاريخها، وأعاد التاريخ الى أهله وأعاد الأهل الى هويتهم الاصلية، فإذا فلسطين عربية باللحم والدم والهواء والشمس والقمر والمهد والقيامة والجلجلة والأقصى والحرم الابراهيمي والانبياء والمعراج والشوك والحصى ومياه العمادة والاغوار التي تضم في حناياها عشرات الصحابة الذين استشهدوا من أجلها وفي الطريق الى تحريرها من الاحتلال الاجنبي.
ثم انني، وجيلي، نحفظ لغسان كنفاني انه عرفنا على الوجه الأعظم اشراقا لفلسطين: شهدائها وشعرائها وأدبها المقاوم، فحفظنا شعرهم كتعويذة صلاة وكحافز اضافي يحثنا ويجلدنا أنْ لبوا نداءها وامشوا الى تحريرها من أسرها الطويل، ولا تتأخروا فتتآكلها الهجانة ويزيل المستقدمون الاغراب ملامحها ويبدلون في وجهها ومعالمها بحيث تغدو اقرب اليهم منا، وتغور صورتها الاصلية في الوجدان وكأنها بعض الماضي بينما هي المستقبل العربي والطريق اليه: مستقبل الأمة ومستقبل انسانها، فلا حرية ولا تحرر للأوطان من دونها، ولا كرامة ولا حقوق للانسان العربي في كل أرض عربية بينما هي مغيبة بالعجز وبالتخاذل او بالاذعان.
***
رحلاتنا كانت مبتورة دائما يا غسان.
لم نبلغ القدس حين قصدناها معا لنشهد ولادة منظمة التحرير الوطني الفلسطيني، وحرمت من أن أراك على مقاعد »النواب«.
لم يكن المنع اسرائيليا، مع الأسف، بل كان عربيا.
وفي الغالب الاعم فإن الطريق الى فلسطين كانت مزروعة بالحواجز العربية، تارة بذريعة العجز عن مناطحة الاميركيين، وطورا بذريعة الخلل في التوازن مع القوة الاسرائيلية المدعومة بمدد دولي لا حدود له، ودائما بنقص الاستعداد العربي عن مهمة جليلة كالتحرير.
.. واخيرا حل الحاجز الفلسطين مباشرة ليعفي الاسرائيلي من المنع ليتولى عنه كل المهمات القذرة ضد فلسطين ارضا وشعبا وقضية.
في مطار عمان، حين بلغناها، تخيّلت للحظة انني كسبت عليك الرهان الذي عقدناه في مطار بيروت. كنت تقدر انهم لن يسمحوا لك بالدخول، وجادلتك: ان لك حصانتك »كنائب«، فأنت عضو في المجلس الوطني، أما أنا فمجرد صحافي آت للتغطية، ولسوف يحاسبونني على موقفي السياسي من النظام الأردني فيمنعون دخولي.
هتف المأمور وهو يسد بجسده الضخم باب الطائرة الصغيرة باسمي اولا، فرفعت يدي، والتفت إليك متباهيا، ولكنني سرعان ما خفضتها وهو يزيد فيهتف باسمك، فلما تعرف الينا أمرنا بأن نبقى في الطائرة حتى يغادرها الركاب.
وفي صالة الترانزيت الفقيرة في المطار الهزيل، آنذاك، جلسنا ننتظر حضور الضابط الكبير وعلى الباب حقيبتانا وقد انصرف الركاب والموظفون جميعا ما عدا حراسنا.
كان الامر باعادتنا براً، ولما رفضنا بقوة لأننا كنا مطلوبين للنظام الآخر في سوريا، آنذاك، في ايار من العام 1964 باتت اللهجة تهديدا صريحا، ولم نكن نملك غير الاصرار على اعادتنا بالطائرة كما جئنا..
بعد مفاوضات حادة، تضمنت الكثير من الاهانات، اختار ضابط المطار ان يتخلص منا بتسليمنا الى مديرية المخابرات العامة، وهكذا تكفلنا بأجرة سيارة تعيد الرقيب »صقر« من عمان الى المطار.. خصوصا ان »صقر« المقدود من جبل رفض اقتراح الضابط بأن يعود بصاروخ!
من مديرية المخابرات الى فندق في جوارها ومعنا الحارس الذي اقفل علينا باب الغرفة، ثم صاح يأمرنا بالخرس، لأنه يريد ان ينام.. ثم مع الفجر وبموكب لم نعرف بمثل فخامته الى المطار مجددا: يتقدمنا دراج فسيارة لجلاوزة المخابرات، ومن خلفنا سيارة فيها أيضا جلاوزة آخرون.
كانت الرحلة من عمان الى بيروت تتم عن طريق القدس. وفرحنا، قدرنا اننا لا بد سنلتقي في المطار من يمنع ترحيلنا. لكن مزيدا من الجلاوزة كان ينتظرنا في مطار القدس التي لم نرها الا من الجو. واحتجزنا، خلف الهاتف المعطل، حتى لحظة الرحيل، فاقتادنا الجلاوزة الى الطائرة، ولم ينزلوا الا بعدما ربطوا من حولنا الاحزمة وسمعوا صوت القبطان يعلن قيامها..
القدس. القدس. القدس.
بلغناها ولم ندخلها. لمحناها ولم نرها. طرنا فوقها وطارت منا. وكان الأمر هاشميا.
وهكذا، يا غسان، فقد التقينا في الأمكنة جميعا الا حيث يجب: في فلسطين وقدسنا الشريفة.
***
هل حان اوان العتاب ايها الذي عاش متعجلا وانصرف عندما اكتمل حضوره؟
لكأنك كنت تعرف يا غسان الموعد فقلت كل ما كان ينبغي ان تقول قبل ان ينفد الوقت؟!.
أيها الكاتب على جانبي الورقة، وعلى طرفيها، وعلى مآقي العيون: كيف انجزت كل هذا الذي انجزت خارج الدورة الطبيعية للزمان؟!.
كان غسان كنفاني يعرف اننا لا نملك الكثير من الزمن لنضيعه.
كان يعرف ان وقتنا في ايديهم: يقررون لنا متى وأين وكيف وكم نعيش، ويقصفون اعمارنا ليزيدوا في اعمارهم.
فهم بأعمارنا يعيشون، في بيوتنا يسكنون، في مدننا وقرانا ومزارعنا يقيمون، وبأيدي عمالنا ومقاولينا النشامى ينشئون الآن المزيد من المستوطنات القلاع للشعب البديل.
ايها الساحر الذي عرف كيف يستولد من الدقائق الأيام، ويمط الساعات فتصير شهورا: كيف انجزت كل هذا الذي انجزت؟!.
لقد كتب ورسم ونحت. احب وتزوج وربى وعلّم. جعل المخيمات مدنا، وجعل اللاجئين شعبا يعتز بهويته ويخرج من الندب الى اثبات القدرة على اتخاذ القرار بالعودة.
كتب، بل انه لم يتوقف عن الكتابة قط. لكأنه ولد وهو يكتب، ولعله استمهل القابلة لحظات حتى يتم قصة او فصلا من رواية او نقد الكتاب او تعريفا بواحد من شعراء المقاومة او صفحة من »ملحق فلسطين«.
هو الآن في عكا. لعله يواصل الكتابة على صفحات ضمائرنا.
انه مثل نجمة: لا يستحضرها الصوت، بل الصمت، فهو اعمق، ثم انه يمنحك الهدأة لكي تفكر ولكي تتذكر ولكي تستعيد وعيك الكامل ولكي تكون أنت.
وها هي كتبه، المكتمل منها والذي نسي ان يكمله حين تعجل الرحيل، تستبقيه في وعي الاجيال الجديدة.
على ان غسان كنفاني ما اكتمل الا بآني، هذه المجاهدة النبيلة، التي حملت فلسطين في قلبها وفي وجدانها وفي جهد عينيها فأتمت ما قصر عنه الشهيد.
تحية اليك يا آني العظيمة، في ذكرى غسان… فلقد حفظته لنا، وبنور عينيك لممت سطوره جميعا، فإذا انت وليلى وفايز تشكلون الصورة المتجددة لفلسطين التي لا تغيب.
تحية الى غسان كنفاني ومعه »لميسه« التي اصرت على مرافقته الى بيروت فصحبها عبر نثار الدم والجسد الى عكا، والى كل شهداء الأمس وشهداء اليوم وشهداء الغد في فلسطين التي لن تموت وفي لبنان المقاوم حتى لا يكون فلسطين جديدة.
II ذات مصادفة مقصودة!
حين استدعاه صديقه مستعجلا عرف ان ثمة احتفالا صغيرا، خصوصا وقد انهى الصديق المكالمة بوشاية دلت على من اعطاه رقم هاتفه.
جميلة هي لقاءات المصادفات المقصودة!
فكر: هل تثق بقدرتها على اجتذابه الى حيث تكون، الى هذا الحد؟!
حول اتجاه سيارته وهو يرد على سؤاله بسؤال: ومم يخاف؟ لطالما انهت المصادفات نفسها بنفسها! ظريف ان تختطف لحظة مرح في زمن البؤس.
لم يفاجئه المشهد حين دخل: كلهم هنا! هذا يسهل التمويه فلا يعرف احد من هو القاصد ومن هو المقصود.
بعد كأسين، كان المشهد قد تبدل كلية، وكانت المصادفة قد اسقطت تنكرها لتغدو موعدا مقصودا، واكتمل احساسه بأنه إنما يتقدم نحو الشرك بقدميه: تسعى اليه حيث يكون فإن ابتعد زادت اقترابا منه، وإن تحاشاها دارت لتواجهه مباشرة.
كان زوجها سعيدا الى حد انه لم يلحظ انسحابهما الى الشرفة، ولا انتبه الى ان الصوت قد خفت فغدا همسا ثم رق الهمس فغدا حفيفا.
قالت متباهية: ها أنت اسيري.
رد بمكر الصبي الشقي: اتمنى ان يطول سجني، لكنك اجبن من ان تكوني سجانا!
فحت من بين أسنانها: كن رجلا وخذني الى سجنك!
قال متفاصحا: إنما نحن دعاة حرية وتحرير!
قالت تنهي اللقاء: عندما تملك نفسك عد إليّ!
دخلت مغضبة، وتلبث ما يكفي من الوقت لكي يمسح آثار عدوانها، ولما دلف الى حيث الجمع لم يجدها.
في طريق العودة كان يشغله التساؤل: هل هذه فعلا حقيقة ما حصل؟! اذا كان صحيحا فلماذا استدعته، ولماذا انصرفت بغير وداع؟!
قطع عليه رنين الهاتف حبل التساؤلات، وسمعها تقول: اريد ان اطمئن عليك في زنزانتك.. هل سجني يريح؟!
وأقفلت الخط على صدى ضحكة مجلجلة، بينما كان جبينه يتفصد عرقا لم يعرف مبعثه: هل هو خجل الخيبة أم التحرج من الاعتراف بالحقيقة؟
III من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلاّ الحب:
ليس للحب زمن، ليس للحب عمر، الحب هو العمر وبه نقيس الزمن. من لم يعرف الحب لم يعش مهما طال عمره. ذلك هو الهباء. ومن احب استطال عمره فرأى نفسه يحاور جده آدم وكأنه رفيق صباه. فإذا ما التقى عاشقا في عمر الورد قال لنفسه: ما اطيبه رفيقا وصديقا، انه يشبهني حتى لأكاد أراني فيه!.