لا يحنٍّ كثيراً إلى المدينة التي لا تشابهها مدينة. يتذكر الشوارع والحارات وكيف كان يمشي متأملاً ذاته في حناياها. هي مدينته وهو مدين لها.
عشر سنوات مرت ولم يعد إليها. يستمع يوميا لمن يتحدث عن سوريا الخراب، سوريا الثورة وسوريا الممزقة وسوريا المنكوبة، وسوريا كل النعوت والصفات، لكنه لا يعرف حقاً عما يتكلمون. فعندما تطول سنوات الغياب تصبح الذكريات الحقيقة الوحيدة. ما تبقى منافي: منفى للجغرافيا، ومنفى للتاريخ، ومنفى للأمكنة الودودة، ومنفى للروح التي تدور في فضاءات لا تعني لها شيئاً.
الأخبار منفى، والانفصال عن الواقع منفى آخر شديد الوطأة. والابتعاد عن الأحبة منفى موحش متوحش. من نحن بلا أمكنتنا؟
عشر سنوات أصبح فيها منفى ذاته، يتنكر لكل ما لا يشبهه ولا شيء يشبهه.
يتساءل: هل آمن بهذه الثورة؟ لا يعرف. حقاً لا يعرف. لا يريد أن يماري أحد، ولا أن يستسهل الإجابة ولا أن يراوغ. هو هكذا لا يعرف. الأكيد أنه لم يؤمن بأغلب الثوار، ولم يؤمن بالشعارات السهلة. بقيت هناك أشياء تستعصي عليه. ولم يتمكن من قبولها تحت أي اسم.
تصادف أيضا أنه كان في دمشق صبيحة الخامس عشر من آذار من عام 2011 وشاهد بأم العين بدايات الاحتجاجات وما رافقها من قمع. شاهد خاصةً ولادة آمالٍ خجولة خائفة وشاهد كيف تتفجر الحياة في عيونٍ أخفت طويلاً خوفها واحباطاتها. تذكر كيف كان يرى المدينة بعيون جديدة، وكيف كانت المدينة ترتدي ثوباً ربيعياً كعيد.
لم يدم ذلك، وربما يكون من الواجب البحث عن الأسباب دون الاستسلام للأجوبة الجاهزة ودون السقوط في مظلومية الضحية، لكن هذا موضوع آخر.
هو اليوم هنا، يراجع ذاته ويراجع السنوات التي غيرت وجهه إلى الأبد. يتساءل كيف وصلنا إلى ملتقى كل الطرق المسدودة بآن، وكيف يولد من الجفاف طريقٌ جديد؟
ولكي يجد بداية جواب، ينظر إلى المرآة وإلى الصور القديمة، ثم يقارن بين المصطلحات الوافدة، ويقِّرُ بأنه يشك بكل البداهات. ثم يعترف أنه لا يعرف بداية البدايات.
لكنه هنا، لا عودة ممكنة إلى زمن المستحيل. يعرف أنه تغير، وإن بداخله وحشُ لم يعد يقبل الترويض ولا التبعية. هو هكذا، ينظر الى العالم كي يبصر ذاته، ويحفر عميقاً في ثقوبه النازفة كي يرى العالم. يرى أن الثورة، ولكي تكون ثورة، عليه أن يدخلها في مسام جسده وأن يتنفسها كالهواء وأن تذوب في جيناته كالملح، دون فلسفة ودون شعارات.
ومسام جلده تقول وهي ترتجف، أن ليس للظلم أن يدوم، وليس للقهر أن يدوم. هو اليوم هنا لا يلعن الظلام ولا يحقد على جلاديه. يملأه حب لا يريد خلطه بما يفسد نقاؤه. يصنع طريقه دون هواجس ودون وعود ودون استعجال. لا يهم إن انهزمت ثورته أم انتصرت، هي هنا، كالهواء، لا يحتاج إلى ايمان… يكفي حبسه كي نموت اختناقاً. هي هنا لا تصنع به إلا ما يريد أن يصنع لنفسه. يلزمه وقت طويل وجهد أكبر كي يستوعب حياته الجديدة. عليه أن يكف عن استجداء القدر ليدفع بها إلى أفق آخر بعد أن بات يرفض اليأس والآمال الزائفة بآن.
في السنة العاشرة، ينظر إلى وجهه في المرآة: خطوطٌ بيضاء جديدة، دروبٌ على مسامات الجسد تتوغل شيئاً فشيئاً، وندوبٌ لا تُنسى تحفر في الروح. ثم ينظر أكثر، ليرى خلف التيه شوارع مدينة يعتلي قمتها جبل حمل كالنبوءة منذ القدم، اسماء ابناءه الآتين: قاسيون!