في كانون الأول/ديسمبر 2018، استشرفت وكالة موديز “Moody’s” للتصنيف الائتماني الوضع الاقتصادي في لبنان فخفضته من “مستقر” إلى “سالب” بسبب ضعف السيولة الحكومية والقلق على الاستقرار المالي الذي توقعت له الوكالة مزيداً من التدهور. وبعد شهر، في 21 كانون الثاني/ يناير 2019، أعلنت موديز عن تخفيض تصنيفها من B3 إلى Caa1 أي من تضاربي يتضمن الكثير من المخاطرة في القرارات الاقتصادية وعالي الخطورة إلى مستوى أداء فقير ووضع ائتماني عالي الخطورة جداً. وسبق تصنيف موديز هذا تصنيفان ضعيفان آخران من موديز نفسها ومن وكالة فتش ” Fetch“. إن هذه التصنيفات لا تأتي من فراغ وكان يجب أن تكون جرس إنذار مهم للحكومة ومصرف لبنان والمصارف التجارية إلى خطورة الوضع الاقتصادي والنقدي والمالي. ولكن لم تظهر ردة فعل عليها في حينها أما نتيجة عدم اكتراث؛ أو لأن الجميع كانوا على علم بأن الخطر أصبح وشيكا وأنها مسألة وقت قصير وتنكشف حقيقة فقدان سيولة المصارف التجارية وعجز مصرف لبنان عن انقاذها.
وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده حاكم مصرف لبنان في نيسان /إبريل المنصرم، أشار أنه مجبر بموجب المادة 91 من قانون النقد والتسليف على تسليف الحكومة وبذلك نفى أية استقلالية لمصرف لبنان عن ضغوط الحكومة بالاقتراض. ولكن من مراجعة المواد 88-91 من القانون، يبدو أن لا شي في هذه المواد يجبر المصرف على اقراض الحكومة بصورة دائمية. فالمادة 88 تجيز المصرف أن يمنح الخزينة، بطلب من وزير المالية، تسهيلات صندوق لا يمكن ان تتعدى قيمتها العشرة بالمائة من متوسط واردات موازنة الدولة العادية في السنوات الثلاث الأخيرة المقطوعة حساباتها. ولا يمكن ان تتجاوز مدة هذه التسهيلات الأربعة أشهر. أما المادة 89 فأعطت الحكومة إجازة دائمية تخولها اللجوء إلى الاستلاف المنصوص عليه في المادة 88 كلما تبين لوزارة المالية والمصرف المركزي أن موجودات الخزينة الجاهزة لدى المصرف غير كافية لمواجهة التزامات الدولة الفورية. إلا أن هذه الإجازة لا يمكن استعمالها لأكثر من مرة خلال أثني عشر شهراً. وتشير هاتان المادتان بصراحة أن الحكومة تستطيع أن تقترض من المصرف المركزي لفترة قصيرة ولمرة واحدة في السنة فقط. وهذه حالة معروفة في بقية قوانين المصارف المركزية التي تسمح للحكومة بالاقتراض قصير الأمد من المصرف لمواجهة مصاريفها العاجلة حتى يتم استيفاء إيراداتها كالضرائب والرسوم وغيرها التي قد يتأخر تجميعها من المكلفين.
أما المادة 90 فتنص أنه بإستثناء تسهيلات الصندوق المنصوص عليها بالمادتين 88 و89، فالمبدأ ان لا يمنح المصرف المركزي قروضا للقطاع العام. أما المادة 91 فتنص على أنه في ظروف استثنائية الخطورة أو في حالات الضرورة القصوى اذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي وتحيط الحاكم علماً بذلك، يدرس المصرف مع الحكومة إمكانية استبدال مساعدته بوسائل أخرى كإصدار قرض داخلي او عقد قرض خارجي او إجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الأخرى أو إيجاد موارد ضرائب جديدة. وفقط في الحالة التي تثبت أنه لا يوجد حل آخر وإذا ما أصرت الحكومة مع ذلك على طلبها، يمكن للمصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب. وحينئذ يقترح المصرف على الحكومة، ان لزم الأمر، التدابير التي من شأنها الحد مما قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة وخاصة الحد من تأثيرها في الوضع الذي اعطي فيه، على قوة النقد الشرائية الداخلية والخارجية.
هذه المواد من قانون النقد والتسليف تبين بوضوح أنه لا يختلف عن غيره من قوانين المصارف المركزية التي لا تسمح للمصرف بإقراض الحكومة في الحالات الاعتيادية الا عندما يتأخر استيفاء ايرادات الحكومة لفترة مؤقتة وتحتاج الموازنة إلى إيرادات مالية مستعجلة لمواجهة تسديد نفقاتها الفورية. أما المادة 91 فتجيز أنه في ظروف استثنائية الخطورة وفي حالة الضرورة القصوى وفي حال تعذر أي إجراء آخر يقرض المصرف الحكومة. وفي هذه الحالة يتم تمويل القرض بطبع النقود لأن المصرف لا يمتلك أموال يستطيع فيها إقراض الحكومة لأمد طويل كما على المسؤولين في المصرف التوضيح للحكومة المخاطر الاقتصادية للقرض خصوصاً على قوة الليرة الشرائية.
إذا كان مصرف لبنان يرى ان المادة 91 تجبره على إقراض الحكومة كلما ارادت ذلك او انه كان يتعرض لضغوطات قوية منها حتى يقرضها فهذا يشير الى أن المصرف كان يقرض الحكومة من خلال طبع النقود وبهذه الطريقة أثــّر تراكم قروض المصرف للحكومة على القيمة الشرائية لليرة وخفضها تجاه الدولار. ولكنه إلى جانب ذلك، كان يشجع المصارف التجارية بشكل مباشر وغير مباشر على إقراض الحكومة باستمرار من أموال المودعين. فالأرقام التي ينشرها مصرف لبنان تبين أن حوالي 30% من ودائع القطاع الخاص المقيم وغير المقيم تقرض للقطاع الخاص و70% تتوزع ما بين ديون للقطاع العام واحتياطي قانوني، يتجاوز بكثير النسبة المطلوبة في العادة كودائع محتجزة لدى مصرف لبنان. إذن فالأخير كان على علم إن المصارف التجارية تسلف الحكومة بشكل دائم بنسب تتراوح ما بين 30 – 40 % من حجم ودائع القطاع الخاص لديها. أي ان الحكومة كانت تعتمد بشكل مستمر على الاقتراض من المصارف عن طريق شراء الأخيرة لسندات الخزينة. كما شجع مصرف لبنان المصارف التجارية بطريقة غير مباشرة على إقراض الدولة من خلال إصدار تعميمات تتضمن إغراءات للمصارف التجارية. فالتعميم رقم 331 الصادر في 2013 على سبيل المثال هدف إلى تشجيع إقراض المصارف للمشاريع الصغيرة والمتوسطة والتي لا تمتلك في العادة ملاءة ائتمانية عالية، من خلال السماح للمصارف التجارية بالاقتراض من مصرف لبنان بدون فائدة (على الأغلب يكون مصدر القرض الاحتياطيات التي يحتجزها مصرف لبنان).
وشراء أذونات الخزينة اللبنانية بعوائد 7%، مقابل أن تقوم المصارف بإقراض المشاريع الصغيرة والمتوسطة بما يساوي 3% من رأس مال المصرف. ويقوم مصرف لبنان بضمان 75% من قيمة القرض، بينما يتحمل المصرف المعني 25% في حالة عجز المشروع المقترض عن التسديد. وفي 2014 أضاف مصرف لبنان إلى تعميمه أعلاه محفزات أخرى للمصارف لتشجيع الشباب على تطبيق أفكارهم الإبداعية بمشاريع تمولها المصارف بهدف تشجيع اقتصاد المعرفة.
إن السماح للمصارف التجارية بتسليف الحكومة بشكل دائم بنسب تتراوح ما بين 30-40 % من حجم ودائع القطاع الخاص لديها هي حالة لها خطورتها الكبيرة. فمن جهة تحرم القطاع الخاص من ائتمانات هو بأمس الحاجة لها جغرافياً ووظيفياً. ومن جهة أخرى تشجع الحكومة على مواصلة الانفاق بأكثر من قدرة إيراداتها المالية، الأمر الذي تسبب برفع حجم الدين العام واستنفاد الودائع الخاصة. وكان مفروضا من المصرف المركزي جذب انتباه الحكومة والمصارف التجارية إلى خطورة هذا المنهج. ومن البديهيات المعروفة دور الاحتياطي القانوني للمصارف التجارية لدى المصرف المركزي في انقاذها عندما تواجه شحة في السيولة من خلال هندساته المالية إلى مزيد من الإقراض للحكومة من خلال السماح للمصارف التجارية بالإقتراض منه بدون فائدة ليشتري سندات خزينة بأسعار فائدة مرتفعة نوعاً ما. إن تشجيع مصرف لبنان للمصارف التجارية على تسليف المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتشجيع اقتصاد المعرفة لم يكن ضمن حزمة من السياسات المترابطة والتي تصب كلها في مصلحة هذه المشاريع وإنما بمبادرة منفردة منه الأمر الذي رفع من عدد وحجم الديون المتعثرة للمصارف. إن استنفاد احتياطيات المصارف التجارية لدى مصرف لبنان بهذه الطرق، جعل الأخير يعجز عن انقاذ المصارف بعد أن بدأت أوضاعها المالية تتهاوى.
مما سبق عرضه يبدو أن الإنهيار المصرفي وعجز المصارف عن إعادة مدخرات المودعين لم يأتِ من فراغ ولا يمكن أنه كان مفاجأة لمصرف لبنان الذي كان على علم بحجم إقراض المصارف التجارية للحكومة وتشجيعها على مزيد من الإقراض من ودائع الأفراد على رغم معرفته أن الحكومة كانت تقترض بما يتجاوز قدراتها على التسديد.
إن أية محاولة من قبل الحكومة لإعادة هيكلة المصارف التجارية من خلال الدمج ورفع رأس المال يجب أن تقترن بوضع حد للتجاوزات التي يسمح بها مصرف لبنان والتي هي ممارسات خارج نطاق قانون النقد والتسليف. فالمصرف المركزي في أي بلد ليس جزيرة منعزلة ولا يعمل من فراغ. فدوره في العادة جوهرياً في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاستقرار النقدي. وعلى الرغم من تأكيد مصرف لبنان دائماً أن كل ممارساته هدفها الاستقرار النقدي فإن المحظور قد وقع ولا يجد مصرف لبنان الآن أمامه أية وسيلة يستطيع بها إخراج الليرة والمصارف من المأزق الذي تتخبط فيه.