أي »فلسطين« هي هذه الآتية اليوم إلى دمشق، ثم إلى بيروت عبر »ترويكا« السلطة في الأرض المحتلة محمود عباس (أبو مازن) وروحي فتوح وأحمد قريع (أبو علاء)؟!
لا حطة ولا عقال ولا مسدس على الخصر، ولا شعار النصر يظلل اللقاءات التي ستظل محكومة بالمجاملات الرسمية وليس فيها حرارة اللقاء في قلب »النضال المشترك من أجل القضية الواحدة«.
ليس لياسر عرفات وريث بعد غيابه، كما لم يكن له شبيه في حضوره الباهر، ولو من موقع المختلف، ولا يستطيع ثلاثي السلطة أن يكون »بديله« لا في الداخل المستنزف في بشره وأرضه وقدراته، ولا في الخارج حيث باتت إسرائيل أشبه بحاكم عسكري وسياسي وفكري لدوله وأحزابه وثقافته، وإن يكن غياب »أبي عمار« قد حرّره وحرّرهم منه في آن معاً.
سيدخل الوفد الثلاثي الآتي من البعيد (هل أبعد من فلسطين) دمشق متهيباً، ولسوف تستقبلهم بعقلها وبحساباتها الباردة أكثر ممّا بعاطفتها القومية.
أما في بيروت فلسوف تنحصر اللقاءات في شرنقة المجاملة المغلفة بكثير من الحذر، وعلى قاعدة »الضرورات تبيح المحظورات«.
ولسوف ترتفع أصوات »لبنانية« تقول: لماذا يجيئون؟ يكفي ما نالنا منهم. الله يسعدهم ويبعدهم!
ولسوف يرد عليها مَن يطمئن الخائفين من شبح الماضي: إنهم يجيئون برضا من إسرائيل وبموافقتها، وإلا لما استطاعوا أن يخرقوا الحصار المفروض عليهم كشعب، وعلى قضيتهم، وعلى اتصالهم بالدنيا، منذ سنوات… وإسرائيل هي من تحدد لهم مساحة الحركة، فلماذا الخوف؟! إن قدومهم فرصة لتوكيد الرفض المشترك لتوطين اللاجئين إلى لبنان فيه. هي فرصة لنسمع موقفهم الرسمي ومن سلطتهم مباشرة، وفي بيروت.
* * *
يستحيل تحويل »الرمزيات« إلى واقع معاش ومن ثم إلى سياسة.
ليس مجيء عباس وفتوح وقريع إلى لبنان، مع نهاية 2004، عودة لفلسطين التي أُخرجت من بيروت، بقوة السلاح الإسرائيلي، في صيف العام 1982… فالذين أخرجوا من بيروت ثواراً مهزومين وسط العجز العربي الفاضح، دخلوا إلى فلسطينهم بعد عشر سنوات أو يزيد كرجال سلطة وشرطة، وفي الطريق إليها ثم فيها تبدلوا وتغيّروا كثيراً، ولم يعد أحد ما كانه… لقد افترقوا عن الحلم، أو افترق عنهم، ومضى كل في طريق.
ما مضى يستحيل أن يعود. وليس »الماضي« هو الآتي الآن إلى دمشق وبعدها بيروت. كذلك فليس هو المستقبل. إنه »الواقع« متشحاً بالسواد على القائد الذي صار رئيساً لسلطة لا تملك من أرضها وقرارها إلا القليل، ثم جعله الاحتلال أسيراً لا يزوره أحد ولا يستقبل الشمس قبل أن يقتله بالكمد والإذلال والعزلة (إن لم يكن بالسم..)!
لا مجال للادعاءات وخطب الحماسة: ليس عند أي طرف فائض من الانتصارات يجيّره للطرف الآخر، الكل ضعفاء، وإن تفاوتت نسب الضعف عند كل منهم. لكن »القضية« ما تزال قوية، وهي تمنحهم بعض قوتها متى تلاقوا وتفاهموا واتفقوا، ودائماً بلا أوهام، وعلى قاعدة الحد الأدنى.
إن اللقاء يصلح لأن يكون هدفاً بحد ذاته، بعد كل هذه المسافة الضوئية من التجافي والتباعد بل والقطيعة، حتى لا نستذكر المخاصمة وحروب الاتهامات المتبادلة بالتخلي عن الثورة وبيع القضية بالسلطة، أو التفرد والذهاب إلى العدو بدلاً من البقاء في حضن الأمة، ولو ضعيفة!
لا أوهام حول النتائج. علينا أن نكون واقعيين فنرضى بالقليل الممكن: حد مقبول من العلاقات الطبيعية التي تتيح التواصل بين الشعوب التي يجمعها ولو رغم أنفها أحياناً همّ مشترك، ويتهددها خطر مشترك مصدره »عدو« مشترك مهما تكاثرت »الاتفاقات« و»الرؤى« و»الخرائط« و»خطط الفصل« التي تحاول فصل شعب فلسطين عن أرضه وتقطيعه وتقطيعها لضرب وحدته الوطنية وتمزيق أرضه حتى لا تتسع… إلا للاحتلال!
على أن بين أخطر النتائج الممكن تحقيقها: ألا تبقى »الفلسطينية« تهمة، وأن تعود إلى المشهد صورته الطبيعية بمعنى أنه تلاق بين الضحايا الممنوعين من توحيد جهودهم، ولو في حدود العلاقات الإنسانية بين »أشقاء« كادوا يضيعون عن عدوهم الأصلي، بينما لم يخطئ هو مرة في تصنيفه لهم كأعداء، لا فرق عنده أكانوا متفقين أم على خلاف في ما بينهم.
إنه تلاق يفيد منه كل أطرافه، وإنما بحدود ما تتيحه الخطوة الأولى على طريق طويلة طويلة مزروعة بالآلام والألغام والأخطاء والخيبات الثقيلة.
إنه تلاق في قلب »الواقعية السياسية«، بعيداً عن الشعر وأحلام التحرير، وكذلك عن أوهام »بيع الفلسطينيين« بمليارات الدولارات (ولا مشترٍ!!) أو رميهم في البحر حيث لا مجال للتوطين!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان