في صيف العام 1983، كان الدكتور سمير جعجع قد اتخذ من بلدة دير القمر، عاصمة الامير فخر الدين المعني الثاني، مقراً له ومعه بعض قواته..
كان جيش الاحتلال الاسرائيلي الذي “غزا” لبنان واحتل جنوبه ومعظم البقاع الغربي ـ والعاصمة ـ الاميرة بيروت، مروراً بالقصر الجمهوري في بعبدا، ما زال يحتل بعض المناطق، لا سيما في الجنوب والجبل بينها دير القمر..
ذات يوم، صعد للقائي الزميل الراحل جوزف سماحه، والذي لا شبيه له ولا مثيل، والذي كان يتولى، معي، رئاسة تحرير “السفير” ـ كان كمن سمع ما لا يصدق. قال: لقد اتصل بي سمير جعجع، وطلب الي الذهاب للقائه في دير القمر… فما رأيك؟ هل اذهب؟ وهل الذهاب اليه خطأ ام خطيئة؟ وكيف يمكننا أن نبرر ـ سياسياً ـ هذا اللقاء مع من نعتبره “قاتلاً” و”مجرم حرب” بشهادة “حاجز البربارة”، ومئات المفقودين والذين، على الارجح، قد صفتهم “قواته” من دون اعلان، وما زال اهلهم لا يعرفون هل يبكون من فقدوا ام يستمرون على تعلقهم بالأمل.. من دون سند؟
قلت: انه موقف صعب.. لكننا في خاتمة المطاف، صحافيون.. وعلينا، احيانا، أن نتغلب على عواطفنا ومواقفنا لكي نخدم قراءنا بما نعرف.. فتوكل على الله، ولنسمع ثم نقرر إذا كان “الحكيم” يرغب في النشر، إن كنا سننشر ونرد، ام انه يريد أن يعرض عليك وجهة نظره، فتسمعها وترد عليها، ونحتفظ بها في ارشيفنا حتى يحين الموعد المناسب لنشرها…
أضفت بعد لحظة صمت، وأنا اضحك: المهم أن تضمن عودتك سالماً.
ذهب جوزف سماحه إلى “مركز القيادة المؤقت” لـ”قائد القوات اللبنانية” التي اسسها الراحل بشير الجميل مع بدايات الحرب الاهلية في لبنان، فحققت “انجازات ” عظيمة، بينها “مذبحة السبت الاسود في بيروت” حيث قُتل خلال ساعات الصباح الأولى اكثر من خمسمائة رجل، معظمهم من عمال المرفأ وممن تواجدوا في الشوارع المؤدية اليه وعلى جنباتها..
ذهب زميلنا الممتاز، فكراً وثقافة وخبرة، إلى دير القمر، فجلس إلى “الحكيم” خمس ساعات كاملة، وعاد بحصيلة غنية، لم تكن للنشر.. لكنها لا تفقد قيمتها مع الوقت، ولذلك سأحاول تلخيصها هنا مستعينا بوقائعها التي لا تُنسى.. خصوصا اذا ما تمت روايتها بأسلوب “الحكيم”..
قال سمير جعجع (ما مؤداه): اسمعني يا اخ جوزف. علينا أن نعترف بالحقائق حتى نكف عن التقاتل مرة كل عشر سنوات. لقد تابعت على الشاشات رحيل السيد عرفات مع مقاتلي المقاومة الفلسطينية من لبنان عبر مرفأ بيروت، رأيت جموع المودعين وهم يبكون وينثرون الزهور على المقاتلين الراحلين مع عرفات، ووليد جنبلاط يطلق الرصاص من رشاشه.. ولقد أثر في هذا المشهد كثيراً، ولكنه اكد لي بالمقابل اننا أمتان، واننا شعبان لا علاقة لكل مهما بالآخر..
استطرد سمير جعجع فأضاف: الحل، لو اردنا، بسيط للغاية.. نقيم شريطاً بين منطقتنا ومنطقتكم.. فاذا اراد احد منكم أن يأتي إلى منطقتنا ليلعب القمار في الكازينو، او ليستمتع بسهرة مع الصبايا المغريات، يظهر جواز سفره، وبختم بسيط يمكنه أن يدخل فيستمتع كما يشاء.. واذا اراد احد منا أن يشتري بطيخاً او لحمة طازجة، يمر على الحاجز البسيط فيختم جواز سفره، ببساطة، ويدخل ثم يعود آمناً سالماً..
*****
سألت جوزف سماحه: وما انطباعك شخصياً؟
قال: لقد كان يتحدث بلهجة جادة، وواضح أن ما قاله لي ليس وليد الساعة، وليس للتصدير. انها افكاره الاصلية. انها ايديولوجيته التي يؤمن بها، والتي يعمل على اساسها، وهي التي تفسر موقفه ليس فقط من الافرقاء اللبنانيين في الداخل، او من العرب عموماً، وهم اهلنا ويحيطون بنا من كل جهة..
صمت جوزف سماحة لحظة، ثم استطرد وفي صوته رنة حزن، بينما كنت اغرق في هموم ثقيلة: انها عقيدته. انها ما يؤمن به، وما يدعي انها رسالته..
وغرقنا، كلانا، في صمت عميق يغلفه الحزن على المصير!