يتلاشى تعب السنين في الاسبوع الممتد بين الشمعتين المتوهجتين بفرح الحياة والاقتراب من موعد الانخراط في الغد والتفتح فيه.
لكل شمعة نورها… وخمس شمعات هي بعض الشمس، والشمس تستوطن قطرة ندى على جبين التعب، وللتعب عطر كمثل رائحة الأرض بعد المطر الأول، ومن الأرض يجيء الخير وإليها يذهب الخير، وللمطر طعم العرق، وللعرق لون الإنسان.
المسافة لا تلغي العيد، فالعيد حيث تكون.
وللعيد اجنحة تطير بأصحابه إليه، يلتقونه ويلتقيهم في افيائه الوارفة. فالعيد الحب والمحبون، وما بعدهم أيام رمادية لا تلتمع فيها نجمة ولا تسري النشوة بصوت المغني ولا تتطاير قلوب الساهرين لتستقر في قلب الآه الثملى.
يحتسب العمر بعدد الشموع الأقوى من رياح الشقاء وأحزان المغادرة وذل الحاجة إلى من لا تشبع حاجاتهم.
اما الزمن فيتضاءل حين يمتلئ بالحضور البهي، الدائم والمشع، ربما لأنه يستمد قيمته من اتصاله بنور العينين.
من الحب يجيء النور،
والمشكاة تطرح نورها في الأرض والفضاء، تنير للمحبين الطريق ثم تستنير بهمساتهم الحرّى، والاسم يسافر فوق نجمة إلى زمن قد تقصر عن بلوغه.
معك يأتي العيد، مثلها غجرياً، ثملاً بالأمل والألم والارادة، وفي الغياب ترسله الينا مثقلا بالهدايا وصورتها.
عندنا تغزل لك من احلامها العيد،
نراك في وجهها، نسمعك بصوتها تلك التي اصطنعت اعيادنا جميعا ونسيت نفسها وما نسينا، اننا الشمعة وأنها الضوء!
لن نطفئ الشموع، فلست بعيدا وليست قريبة، المسافة تتهافت تحت وطأة حضورك، والانتظار مجمرة الشوق.
تستحضرك وتغيب مطمئنة إلى انها فيك، وتستحضرها وأنت غائب، لا نعرف اين تنتهي واين تبدأ، فانتما البداية والطريق، تتقدمان وتمنعان التهالك.
من قبل، لم يكن يفهم ابدا العلاقة بين الشمع وأعياد الميلاد.
كان يتطلع مذهولا الى ذلك المنظر الكاريكاتوري: يحيط الاهل والخلان بصاحب العيد، في ايديهم الهدايا، وعلى الطاولة قالب الحلوى وقد غرست فيه الشموع بعدد السنين. يرطن الجميع باللحن الأجنبي الساري، ثم ينفخون معه لإطفاء شمع العمر!
لم يقبل مبدأ التجدد بالانطفاء،
كيف اذا اطفأت مزيدا من الشموع تصبح اكبر؟!
يحتاج الكبر الى مزيد من النور.
ومن اين تجيء السعادة المرتجاة طالما انك تستقبلها بالإظلام؟!
ان تنير شمعة خير من ان تلعن الظلام، فلماذا، اذن، تطفئ الشموع، ولماذا وهذا الأدهى تصفق وتتقافز طربا وقد سادت العتمة، ولو مؤقتا؟!.
… وبين الشمعتين ينتصب العمر شاهدا ونذيرا: لقد اطفأت ما يكفي، حتى ولو لم تكن تعرف في اي يوم ولدت، في اي شهر، وربما في اي سنة.
لا شموع خلفك، لا شموع امامك. أنر نفسك بنفسك، غنّ لنفسك، ان احببت، وانتعش بصداك، فأنت المطرب والسامع الأوحد، ولتصفق اليد الواحدة للعيد المجهول موعده.
من حظك ان تصطنع عيدك.
عيدك يملأ عليك دنياك. عيدك في داخلك،
لك الذوبان ومن الشمعة الضوء والعيد فيك: ما ينقص منك يزيد فيهم، وللعيد الأيام جميعا.
***
خذنا إليك. خذنا الى العيد.
سنضيء شمعة جديدة، من اجل مزيد من النور، مزيد من الفرح بالغد الآتي ليمنح اعمارنا المعنى.
لن نطفئ الشموع. سنضيء شمعة جديدة لنطرد بعض سواد ايامنا. سنعيش في النور، ومن النور نصطنع يومنا الجديد.
الشمع ذوب دموع. الدمع ذوب أعياد آتية.
القمر خارج دائرة الحوت
قالت بكثير من الغنج: ألم تعرفني؟!
قال بكثير من الحرَج: ولو…
وفرت عليه استنهاض الذاكرة المكدودة حين أطلقت اسمها كرصاصة: أنا قمر… قمر الزمان!
استدرك وهو يفتعل ضحكة قصيرة: أتركْ قمرنا يا حوت..
قالت مكملة حصاره: لقد حصل. تركنا الحوت! كانت محنة قاسية، وقد تذكرتك كثيراً.
سرح بأفكاره بعيداً عنها يحاول أن يستجمع ما يتذكر عنها:
آه.. هو يعرف أباها جيداً. لقد التقاها مرة واحدة، ربما مرتين، وبشكل عابر جداً. يذكر أنه والعديد من الأصدقاء قد لاحظوا أنها زُوِّجت وهي أصغر سناً من المألوف، ثم انتبهوا إلى أن زوجها هو الأخير في بدايات شبابه. يومها قال قائلهم إن الأبوين الثريين قد عقدا صفقة ممتازة لحفظ المال في أهله، فزوَّجهاهما قبل أن تأخذ المغامرات العاطفية أحدهما أو كليهما إلى حيث تضيع الثروة، وهي هنا شرف النسب.
أكملت بلهفة طغى فيها الود على العتاب: أمّا أنتَ فلم تتذكرني أبداً. دعوناك أكثر من مرة فلم تأتِ، ولعلك لم تعتذر أيضاً..
اتسعت ابتسامتها فغطت وجهها الجميل كله وهي تضيف: هذا حديث من الماضي، وقد ذهب الماضي، فلنهتم بالغد. لقد انفصلنا، عيسى وأنا، وبقي لي من تجربتي المرة »مهند«… أنت لا تعرف »مهندي«، إنه أروع ما في الحياة. وأنا الآن أقيم في منزلي الخاص وحدي. لعلك الآن تلبي إن دعوتك..
قال بما يشبه الاعتذار: واضح أنك مقتنعة بقرار الانفصال، لعل فيه الخير لكليكما..
قالت: ولكنك كنت حاضراً في ذهني وحياتنا تخرج من إطار الحلم إلى جهنم الخلافات اليومية. تذكرتك أكثر من كل الذين تربطنا بهم صداقات حميمة وعلاقات قربى. كنت أستعيد، مع كل شجار، الكلمات القليلة التي سمعتها منك حين قدّمنا إليك أبي مزهواً بشبابنا. قلتَ لنا يومها: أنتما جميلان كقصة حب، فلا تتعجلا نهايتها..
قال معتذراً: لم أكن أقصد طبعاً، التشكيك بخيار أي منكما..
قالت بصوت رائق تماماً: لمَ الاعتذار؟! أعرف ما كنت تقصده، لكننا تعجلنا فانتهت قصة الحب، ولم يصمد الزواج.
قال بلهجة من يستغيث لايجاد خاتمة للحديث: لعلها السن. لعلها المراهقة. لعله نقص التجربة. لعل الأهل هم الذين تعجلوا. لعله الفارق في درجة النضج. لعل تربيتكِ مختلفة. يوم لقيتكما شعرت بأن شخصيتك هي الأقوى، وأن أباه يتحدث عنه، وقدّرت لأبيك أنه يرعى أن تكوني أنتِ..
قالت وقد اكتسى صوتها الآن حرارة إضافية: الآن أرعى نفسي بنفسي، ألا تريد أن تتحقق من صدق فراستك؟!
قبل أن يهم بنطق كانت قد طلبت إليه أن يعيرها قلمه، وسجلت بسرعة أرقام هواتفها، الثابتة والمنقولة، ثم مدت إليه يدها بالوريقة وهي تقول: أحتاج الى جملة قصيرة جديدة، في لقاء عارض، تساعدني في مواجهة الآتي..
قال وهو يحاول التخلص من حرج المباغتة: حياتك أمامك لا خلفك، فاحفظيها..
قالت: هذا هو بالضبط ما أريد أن أسمعه، شكراً… ألن تأتي لكي ترى »مهند«؟! لديك العنوان، فلا عذر لك، بعد الآن. إني وحيدة، وحيدة، وحيدة.
لم يعرف ماذا يقول، فاكتفى بابتسامة صغيرة، وهزات من رأسه الذي أحسه يضج بكثير من الأسئلة… ثم خطر له أن يهون عليها الأمر فأطلق جملة أرادها للمجاملة فحسب: أعرف أن الوالد غائب، ولعلك تفتقدينه…
قالت وهي تنهي اللقاء بعصبية واضحة: لي أسوة بمهند، فوالده غائب هو الآخر، ولكنه يكبر كل يوم ويعرف من الحياة وعنها أكثر، كل ساعة، لا عليك… إنما نبحث عن أصدقاء، لا عن آباء.
وكالعادة، لم يعرف كيف يصلح الخطأ الفادح، فوقف ينظر إليها وهي تنصرف متعجلة، ثم ترشقه من عند الباب بابتسامة حيّرته دلالتها: وهل فيها من الاعتذار أكثر من السخرية، أم فيها من اللوم أكثر مما فيها من الاستدراج؟
طوى الوريقة بعناية، وقرر أن ينتظر دعوتها..
وها قد مر الشهر الأول، وهو ما زال يؤكد لنفسه: ستتصل، مؤكد أنها ستتصل، ربما اليوم، ربما في الغد، ربما بعد سنة… لكنها ستتصل!
معابثات مع العشب
فجأة، انفجر الأخضر اليانع فملأ العشب الأمكنة. خرج من قلب الصمت فانتشر كما النشوة.
ليس لذلك العشب اسم الا العشب، لكنه كان مزهوا بذاته، في تلك الساعة على حافة الغروب وكأنه قد اكتسب اخيرا المعنى.
قبلك كان مجرد حشائش تافهة قيمتها في لونها، وبعدك صار العشب كائنا حيا يقرر ويختار اين وكيف يكون.
غادر العشب امكنته الأليفة وأخذ ينبت حيث يشاء.
فتحت كفي فاذا هي مرج اخضر.
انتبهت، على حين غرة، ان العشب قد نبت فوق اجفاني.
كتبت على العشب اسمك فانطوى على ذاته ليحفظك ويحتفظ بك بعيدا عن الفضوليين الذين يتنصتون على همسات المحبين في الأصيل.
صار للعشب هوية. صار للعشب رائحة وصوت… وبدأت احاول ان اتعلم لغة الأعشاب.
كيف تسنى لك ان تنقشي في العشب وبالعشب القصة وأن تودعيها في كنفه بحيث بات له، ايضا، سره الممتع؟!
أمس، رأى الفلاحون عشبك، يتلوى ظمأ فلووا اعناقهم مشفقين من معابثاتك التي تغتال الأخضر.
تهويمات
} ماذا يطلب الصياد المتقاعد غير المستمعين؟
ماذا يتقن الملاح العجوز غير فن الرواية؟
} ماذا تتقن الطريدة غير تباهيها بأنها قد اجلت وقوعها في الشرك؟
ماذا يتقن الشرك غير رواية القصص البتراء؟
} تكفي امرأة واحدة لتكون تظاهرة، اما تزاحم النساء في الشارع فلا يصطنع غير الفراغ.
} تعتصمين بالصمت دائما حتى ضاق بك الصمت. الى متى ستلوذين بي.
} اخافك وأنت تنصرفين مهزومة. اعرف انك ستعودين واتحسب لانتقامك. الهزيمة، غالبا، اقوى من الحب. انها تحيله الى نقيضه المميت.
هل كتب عليّ ان انتظرك بين حفلتي انتقام من ذاتك؟
} لماذا هذا التعجل؟ ما زلنا نملك عشر سنوات اخرى من الانتظار.
فلتكن، اذن، هدنة ما بين الرغبتين.
} توقفت العاصفة وساد السكون فركبه الخوف: هل اضاع فرصة ثمينة ام انه، بغير وعي، تقصد ان يبعثرها ليحفظ نفسه؟!.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
سمعت من يقول: لم ينلني من الورد الا شوكه فأدماني، وعطرني دمي فانتشى الورد وتمايل طرباً.
افزعني هذا الغزل الوحشي. بعضنا يطلب الحب وراء المستحيل، بينما يطلبه الحب في انسانيته الوادعة. كلما ارتفع الصوت نقص الحب. الهمس لغة الحب، فإذا ما بلغ الذروة ساد الصمت الذي ينشر خدر اللذة وعطر الورد على طرقات السائرين فوق الشوك طلباً لحب يحييهم بعد موات!.