ماسيناسا يواجه الزوابري لحماية عروبة الجزائر
طلال سلمان
التقينا على هامش مهرجان الجنادرية الذي تحوّل مع التجربة والسنين والانفتاح إلى تظاهرة ثقافية يشع فيها الفرح مع الشعر والفنون الشعبية، ويفتح باب العقل للأسئلة المقلقة مع الندوات والمحاضرات ذات الطابع الفكري أو الثقافي، أما أحاديث السياسة مكتوبة أو مروية شفاهة فلا تثير غير الأشجان.. المعتقة.
مع ذلك الصديق الجزائري جرى الحوار في قلب الجرح.
قال وأنا أهنئه على صموده، أي على استمراره على قيد الحياة:
لقد جرّبتم الحياة في الفاصل الضيق جيداً بين موتين، وكتبتم كثيراً في لبنان عن الموت بالمصادفة والحياة بالمصادفة. عندما يصير همّك أن تحفظ رأسك فوق كتفيك فليس أكيداً أن تلك هي الحياة… صار العيش عندنا أهم من الحياة. هذا يقربنا من الحيوانات ويكاد يلغي إنسانيتنا. أن تعيش يعني أن الثمن غير مهم، ويعني أيضاً أن الكيفية غير مهمة، وأنك مستعد لأن تدخل اللعبة بشروط القاتل. الآخر هو الموت، وأنا هو الموت بالنسبة للآخر. صراع بين حيين هو صراع بين مشروع ميتين.
لاحظ أنني غرقت في استعادة ماضي بيروت القريب، بين منتصف السبعينيات وبداية التسعينيات، فصمت، وعند ذلك أفقت معتذراً، فقال ببساطة:
أفهم وضعك تماماً، أتحدث عن نفسي فترجع إلى نفسك، وقد تهنئ نفسك الآن بأنك قد نجوت من المستنقع الدموي، بينما ما زلت أخوِّض فيه… ولست ألومك، بل أغبطك، بل انني، إذا شئت الصراحة، أغرق في شعور متأخر بالذنب، لأنني حين كنت أنت تسبح في دمك كنت مشغولاً عنك بل كان يضجرني أنينك والصراخ المتواصل للمقتول الآخر: الفلسطيني.
لم أعلق فاستأنف يكمل اعتراضاته:
أذكر اننا التقينا ذات يوم في باريس. كان ذلك في آب 1982، وكانت »بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء« في ظل الاجتياح بل حرب الإبادة الإسرائيلية، كما أبلغتنا »السفير« آنذاك… كنت عائداً لتوي من سفر، وكنت عائداً لتوك من تظاهرة حاولتم جعلها غربية فلم توفقوا وظلت قاصرة على نفر من الضحايا اللبنانيين والفلسطينيين. ولقد لاحظت أنك تجاهد لتكظم غيظك وأنت تطمئن عليّ، ثم انفجرت بي تقول: بينما نحن نتجمع غير بعيد عن قوس النصر في ساحة شارل ديغول، سمعنا أبواق سيارات وهتافات بلغة بدت وكأنها العربية، واستبشرنا خيراً، إذ افترضنا أن أخوة جزائريين أو من شمال أفريقيا قد جاءوا أخيراً للانضمام إلينا. وكانوا بالفعل جزائريين، ولكنهم مروا بنا في سياراتهم متعجلين، فتفرّقت صفوفنا المعدودة خوفاً من جنون السائقين الذين تبدوا سكارى وما كانوا بسكارى. كانوا في شبه غيبوبة من البهجة، وعرفنا متأخرين أنهم يهتفون لفريقهم الوطني بكرة القدم وقد حقق نصراً دولياً في هذه اللعبة القومية الخطيرة.
قلت: ما علينا من الماضي، أنه ثقيل الوطأة بآلامه وأحزانه والانحرافات..
قال: الماضي أهون من الحاضر، وأتمنى ألا يكون أفضل من المستقبل. كان عزاء أي طرف من أطراف الصراع في لبنان ان له »قضية« يفترض أن يدافع عنها. أما عندنا فالموت مجاني، تافه وسخيف. انها لعبة دم عبثية في ظاهرها، ولكنها عمليا تستهدف تدمير الجزائر كبلد وكشعب وكدولة وكدور كان له أثره البارز في السياسات العربية والدولية.
سألت: فما الذي يجري حقيقة؟ مَن ضد مَن؟ مَن القاتل ومَن المقتول، ولماذا؟! ما هي »قضية« كل طرف؟!
قال: لا أعرف ولا أظن أن أحداً من الجزائريين يعرف. انها لعبة دموية قذرة بين مَن في السلطة ومَن هم خارجها ممن يطمحون إلى أخذها ولو بالقوة. انها صراع بين الرشاش والبندقية والفأس والسكين. هؤلاء يقتلون بالرصاص والآخرون يقتلون ذبحاً.
قلت: ولكن السلطة في يد الجيش، فهل يقدر أولئك الذين يرفعون راية الإسلام على إزاحة الجيش عن السلطة التي يمترس خلفها منذ ثلاثين سنة أو يزيد؟!
قال بلهجة جازمة: طبعاً لا! وما حدث أن الجيش قد قبض على قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ فرمى برجالاتها في السجون أو أبعدهم إلى أعماق الصحارى، فصارت الجبهة بلا رأس، وصار بوسع أي كان أن يرفع راية الإسلام وأن يقتل باسمه. لا جسم الجبهة تنظيم حزبي جدي، ولا قيادات الصف الثاني كانت قادرة على أن تقود، ولا قادرة خصوصاعلى منع »الآخرين« من المندسين والبلطجية والعاطلين عن العمل والمشبوهين ومَن لهم »ثار بايت« من أن ينطلقوا خلف غرائزهم أو أطماعهم أو ثاراتهم أو هوسهم المتستر باسم الدين فيأخذوا البلاد إلى الكارثة. يكفي أن أذكر لك أن أحد أبرز »زعمائهم« مؤخرا كان »عنتر الزوابري«، وقد قتل؛ كان »الزوابري« من قبل حاجبا، وهو جاهل لا يعرف عن الاسلام شيئاً. لكنه صار قائدا.
صمت قليلاً، وران عليه الحزن، وبقينا لفترة ساهمين كأن أرواح القتلى ترف حولنا وتلومنا أو تعاتبنا ثم عاد يقول:
أخطر ما يحصل في الجزائر ليس القتل الجماعي العبثي. ان هذا مفزع وخطير. لكن الأخطر هو تدمير هوية الجزائر، نسف عروبة الجزائر، وتشويه إسلام الجزائر. ان الأكثرية الساحقة من الصحف اليومية التي تصدر الآن في الجزاير (8 من 12) إنما هي باللغة الفرنسية، وثمة صحيفتان »رسميتان« باللغة العربية لا يقرأهما أحد (»الشعب« و»المساء«)، لأن لغتهما متيبسة وبلا قلب وبلا روح مثل البلاغات العسكرية، وتبقى صحيفة أو اثنتان باللغة العربية يصدرهما شبان هواة (!) ومبتدئون.. ومع ذلك فإن الاعلانات، وكلها رسمية في الجزائر، أي تمنحها الدولة أو مؤسسات القطاع العام، تذهب إلى الصحف الناطقة بالفرنسية، والنزر اليسير منها »يمنح« للصحف العربية.
كذلك فثمة حملة صليبية ضارية ضد المدرسة الرسمية في الجزائر. إن الأقلام غربية الهوى وغربية التوجه وغربية اللغة، وبعض الأحزاب والقيادات السياسية، إضافة الى المتفرنسين وأنصارهم في الجزائر يقولون ويكتبون يوميا ان المدارس التي تعتمد اللغة العربية في برامجها هي بين أسباب الكارثة، فهي لا تخرج على زعمهم إلا متعصبين أو متخلفين لا يستطيعون اللحاق بركب التقدم… انهم يطلقون عليها: مدارس النكبة!
إن اللغة العربية مهددة. لقد نسف التعريب، وتحول الى سبّة.
لا خطر على الإسلام في الجزائر، فعمر الدين الحنيف عندنا أربعة عشر قرناً، وقد واجه كل أنواع الحروب الصليبية، وآخرها الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، وبقي بل انغرس أعمق في ضمير الجزائري واصطنع له وجدانه، وشكّل الأرضية الصلبة لقضيتنا الوطنية.
الخطر كل الخطر على اللغة العربية.
إنهم يريدون إعادتنا إلى الهجانة.
حتى الدعوة إلى الكتابة بالإمازيغية (اللهجات البربرية) لا تشكل خطراً، فالإمازيغية ليست لغة… وذات يوم وقف رئيس الحكومة السابق المقداد سيفي وقال في الجمعية الوطنية (البرلمان)، عندما احتج عليه بعض النواب وطالبوا باعتماد الإمازيغية لغة رسمية ثانية: »حتى الملك ماسيناسا، وهو أول من تولى العرش في مملكة نوميديا البربرية التي واجهت الأمبراطورية الرومانية لم يكن يخطب بالإمازيغية بل بلغة نوميقيا!!
ومعروف أن مملكة نوميديا، وكانت عاصمتها قسنطينة، في شرق الجزائر، قد مدّت نفوذها الى معظم شمالي أفريقيا وبعض الساحل الأوروبي، لكن لغة الكتابة والخطابة فيها كانت الفينيقية (نوميقيا) التي أخذت من قرطاج (وقد كانت جزءاً منها)..
إن الموت هو الحاكم الفعلي في الجزائر.
إن القتلة في كل مكان. لا هدف واضحاً للقتل ولا نتيجة محددة ترجى منه. وستستمر العاصفة الدموية دهراً، فلا أحد له مصلحة فعلية في وقفها.
إن الولايات المتحدة مطمئنة على سلامة مصالحها في النفط والغاز.
وفرنسا تفترض أنها تستعيد بعض ما أفقدتها إياه الثورة.
والعرب غارقون في همومهم…
لنا الله… إن سمح لنا الإسلاميون أن نستعين به.
صمت صاحبي، ولم أجد ما أقوله، فنطق الصمت وتسللنا عبره إلى ضوضاء المهرجان، طلباً للنسيان.. ولو مؤقتا!
في وداع الصديق الخصم
أروع الصداقات تلك التي تنشأ بين »خصوم«.
يكون على واحدنا أن يتخطى، بثقافته ونزاهته، بدماثته واحترامه لحق الآخر في الاختلاف، حاجز الخصومة، مكتشفاً في »خصمه« صفاته وخلقه ومواهبه الذاتية، خارج دائرة الجدل أو الصراع العقائدي، فتنشأ عندئذ صداقة متينة وثابتة تسهِّل التوافق حتى بالمعنى السياسي.
إنعام رعد واحد ممَّن جاءوا من الخصومة إلى الصداقة، ومن قبله قائد قومي سوري آخر هو الدكتور عبد الله سعادة.
بالطبع هناك آخرون، كثير من الآخرين، أنشأوا صداقات مع مَن كانوا يعتبرونهم خصومهم العقائديين، لكن هذين الرجلين شكّلا لفترة طليعة بهذا المعنى: لم يبدل أحدهما جلده، لكنه كان يملك من الشجاعة ما يكفي للاعتراف بأن حزبه كان ينقصه القدر الكافي من العروبة.
وليس هنا مجال التقييم النهائي للدور الذي لعبه كل من الدكتور عبد الله سعادة وإنعام رعد في قلب العمل الوطني وحركة النضال القومي (العربي)، ولكنها مجرد تحية لرجال سنفتقدهم غداً.
ومن حق إنعام رعد أن نذكر له على وجه الخصوص دوره المتميز في مكافحة الصهيونية وفي دحض مقولاتها، وفي مطاردة آثار التطبيع في كل مكان.
لقد كتب وخطب ونظم وتظاهر وحاضر وناقش وجادل حيثما تسنى له الوصول، فاضحاً الطبيعة العنصرية للصهيونية، داحضاً مقولاتها السياسية المموّهة بالتوراتيات.
لقد سقط إنعام رعد، كما عبد الله سعادة، في الميدان.
مات »المناضل الفقير« الذي ظل يعطي حتى الرمق الأخير… وظل يدور على الصحف والمنتديات حاملاً مقالاته، مستثيراً المناقشات الجادة، فاضحاً »التطبيعيين« وأساليبهم الخبيثة.
وداعاً أيها الصديق.
استضاء فرأى، ورأى فأضاء..
تبدّى المدى بلا مدى مفتوحاً على الفراغ والسراب والأحلام المحطومة.
الصحراء ليست وهماً، لكنها لا تنبت غير الأوهام.
ذات ليلة، طوت الصحراء نفسها فانطوت وتكوّرت واحة فيها قنديل تظلّله ياسمينة.
عرَّشت الياسمينة على جذعه متسلّقة أفكاره. تغلغلت في مسامه وخالطت دمه مصعِّدة إلى وجدانه.
استضاء فرأى، وحين رأى أضاء كنجمة. لا، بل هي النجمة. لا… كيف تُحوِّل هذا الدفق من الحياة إلى جماد، وإن كان ملتهباً؟!
نجمة، بلى.. وإلا فما مصدر هذا الحريق؟!
هطل الشعر فاستعرت النار والتهب الرمل والسراب والفراغ.
رفّت فراشة، وهدلت حمامة فتبدّى غناء العندليب نشازاً.
قالت ولم تسأل: سكناك خلف المدى،
قال ولم يجب: أحسد الشاعر كلما خنقني الضيق في لغتي.
وسمع من داخله صوته يقول: ما أغباك؟! ومَن يحتاج إلى اللغة؟!
أنصتت فأغضى خجلاً، وسمعت من داخلها صوتاً يقول: ما أغباكِ، مَن يسكن الغيم؟!
قبل المدى، بعد المدى، قبل الواحة، بعد الواحة، بقنديل وبلا قنديل، في ظلال الياسمين أو من دون ظلال يهسهس دبيب النمل خافتاً بغير توقف.
ما أروع القصائد التي يغنيها دبيب النمل فلا يسمعها غير الذين يصغون بقلوبهم.
لا يتوقف النمل في انتظار الجواب. مسيرته طويلة وهو يطوي الصحراء فتمتد ولا تنطوي لأن الساري يقصد عنوانه خلف المدى.
نريد الوردة لا العطر
لا ينتظر الحب السؤال. إنه يتدفق.
نغرف من حبك فلا هو ينضب ولا نحن نرتوي، ولا نصدق أنك عطشى!
نعيش في قلبك. نزدحم فلا يضيق بنا، ولا نصدق أنك تبيتين خارجنا، في برد الهجران.
نخاف أن نعلن حبنا كله فيؤذيك، ونخاف أن نحبسه فيؤذينا.
لا تسأل الوردة: مَن انتعش بعطري!
ولا نستطيع أن نحفظ لك عطرك في غير قلوبنا، وأنت تريدين له أن ينتشر، وتظلين تنثرينه على غيرك وتنسين نفسك.
لا نملك أن نعيد إليك ما أعطيته. لا تستعيد الوردة عطرها.
لكننا نريد الوردة لا العطر.
لو أنك فقط تعرفين… كيف يعرف المشغول بغيره عن نفسه؟!
تسمقين علواً فنخاف عليك الانكسار، ولا نريد أن نشدك إلينا ونعجز عن الارتفاع إليك، فنعيش خوف الانكسار مرتين.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
اعط حبك فسحة للتنفس. امنح نفسك فرصة الابتعاد قليلاً لكي تعود إلى حبيبك بما يدهشه. الحب يفتح الباب للمعرفة ولا يغلقه. مَن أغلق على حبه الباب آذاه وحرمه من الهواء والتجدّد.
يحتاج الحب أيضاً إلى الهواء. جدّد خلايا حبك بشيء من البُعد أحياناً. امنح نفسك الفرصة لأن تفاجئ حبيبك بمزيد من الجمال فيك. المعرفة جمال أيضاً.