اريك رولو: القادة الكبار ينجبون الصحافيين الكبار!
بعد انقطاع طويل عن العمل الصحافي، وبعد غيبة امتدت دهراً عن لبنان، وعن المنطقة عموماً، عاد اريك رولو إلى بيروت في ثوب »الأستاذ المحاضر«، مجتهدا في أن ينفي عن نفسه الوقوع في شرك التقاعد، وحريصاً على تأكيد جدارته بدوره المتميز كشاهد على عصره.
اقتحم مكاتب »السفير« بعدما ألقى بحقيبته في الفندق الكبير، وهجم علينا كعادته يسأل ويسأل، عن الأحداث والأحزاب والأشخاص والأفكار، يناقش، يستوضح، ويسجل الأساسيات بعينيه تاركاً لأذنيه التفاصيل المملة.
»الصحافي الكبير« كثير الأصدقاء، كثير الخصوم، مطلوب للقاء الجميع، لكن كلاً منهم يريد أن »يأخذ« من أسراره، من معلوماته، من »مكتنزاته« التي جمعها من الآخرين، أكثر مما يريد أن يعطيه.
»الصحافي الكبير« ما زال يعمل وكأنه سيرسل (أو سيملي) مقالته بعد دقائق، مع أنه يعرف أنه قد ترك الصحيفة التي أعطاها نصف عمره »لوموند«، وأن لا شيء مما يسمعه يدفع إلى الاستعجال، وأن لديه الوقت الكافي لإعادة صياغة هذا الذي يتجمع لديه من الانطباعات والتقديرات والأجوبة المحتملة في بعض كتبه الجديدة.
صار »الصحافي الكبير« خبيراً.. أجنبياً!
دار اريك رولو، كصحافي يعرف أن الوقت ثمين وأن الاسم رصيد محترم، على العديد من القيادات السياسية والحزبية فتعرف إلى الجديد منها، كرئيس الحكومة وقيادة »حزب الله«، واستعاد ذكريات زمنه الجميل مع القدامى ممن كان يلتقيهم في باريس أو في بيروت أو في عواصم عربية أخرى، كقيادات »الحركة الوطنية« سابقا، إضافة الى »زملائه« الذين طالما شكّلوا بعض مصادره المهمة، إذ كانوا »يهرّبون« معه وعبره المعلومات التي لا يستطيعون نشرها.
وحين أطل اريك رولو من على شاشة التلفزيون، وكان قد غادر بيروت، تبدت بوضوح الأسباب التي تجعل »الصحافي« كبيراً أو تبقيه في حجم محلي هزيل، لا يكاد يخرج من أسار تعصبه الطائفي حتى يسقط في وهدة جهله الفاضح ونقص المعلومات، اما لتعذر الحصول عليها بوصفها »سراً حربياً« واما لأن الحاكم يعتبرها من حقوقه الشخصية، ويمنعها عن الصحافي لأنه لا يريد أن تصل إلى الجمهور.
كانت الحقيقة الكبرى التي أعلنتها المقابلة ولم يعلنها اريك رولو ان القادة الكبار يسهمون في صنع الصحافيين الكبار من خلال تصديهم للجليل من التحديات، ومن إخلال إقدامهم على إنجاز ما يعجز عنه، عادة، الآخرون، وأساساً من خلال احترامهم للرأي العام واحترامهم لعقول الناس وسعيهم الى كسب ثقة الناس، في الداخل، وتعاطفهم في الخارج، أو تفهمهم وهذا أضعف الإيمان.
إن ظهور »الصحافي الكبير« في بلد ما ليس شهادة للمهنة أو للشخص بذاته، فحسب، بل هي أيضاً شهادة للمناخ السائد في ذلك البلد، لنظامه، وأساسا لقيادته أو لرئيسه… ونادرا ما يظهر »صحافي كبير« في بلد ذي نظام دكتاتوري قمعي،
لكي يصير الصحافي كبيرا لا بد أولاً أن تكون هناك صحافة، ولا بد ثانياً أن تكون فرصة الحصول على المعلومات ممكنة، ولا بد ثالثا أن تكون هناك حياة سياسية،
أما حيث ينظر إلى الصحافي على انه مجرد »مصور« أو »كاميرا مان«، في عصر التلفزيون، مهمته أن يقدم الحاكم الى الناس في أجمل صورة، مردداً كالببغاء التصريحات الرسمية التي تعممها وسائل الاعلام الحكومية، فلا يمكن أن يكبر »الصحافي«، بل ولا يمكن أن يستحق هذا »الناقل« أو »الببغاء« الرسمي صفة »الصحافي«.
من باب التداعيات، سأروي هنا واقعتين عن علاقة الحاكم العربي بالصحافة لتظهير حجم »الكراهية« التي يكنها كل ذي سلطة مغتصبة للرجال الذين ساقتهم أقدارهم إلى مهنة البحث عن المعلومات والأخبار والحقائق.. أي المتاعب:
الواقعة الأولى في العام 1972، وكنت بعد محرراً في دار الصياد، ذهبت للقاء رئيس عربي من عتاة الثوريين الساعين إلى تغيير العالم، يصحبني زميل كان يعمل للدار نفسها، إضافة الى توليه المسؤولية عن صحيفة محلية.
استقبلني الرئيس الثوري المتفرد في مزاجه المتقلب، بالترحاب، لكنه حين عرف ان زميلي »مواطن« أبدى شيئا من الانزعاج قبل أن يطلب إليه أن ينتظر في مكتب مجاور لأنه يريد أن يبلغني ما لا يجب أن يسمعه غيري.
بعد خروج الزميل لم يقل الرئيس شيئا ذا شأن، فاستأذنته في أن أنادي زميلي »المحلي«، فإذا به يقول لي بنبرة غضب: دعه خارجاً، ليس في بلادي صحافيون!
قلت معاندا: من خلال متابعتي صحافتكم أستطيع أن أشهد أن ثمة أقلاما جيدة وثمة مجتهدين يحاولون اللحاق بمن سبقهم!
قال بحدة: كلهم حمير لا يفهمون، ولا يعرفون شيئا!
واصلت معاندتي: أعطهم الفرصة! انك تمضي ساعات مع الصحافي الأجنبي أو العربي، فلماذا لا تمنح الفرصة لصحافيي البلد لكي يعرفوا ويثبتوا كفاءتهم.
لكنه ظل على رأيه: ان الصحافيين في بلاده، وربما مواطنيه جميعا، هم قطعان من الحمير، وانه وحده من يفهم، ولا يفهم عليه إلا الآتي من الخارج!
الواقعة الثانية سابقة تاريخيا على الأولى، وهي »مشرقية« بعكس الأولى »المغاربية«: ففي سنة 1970، كنا مجموعة من الصحافيين معظمنا من العرب وبيننا بعض الأجانب، مدعوين الى احتفالات عارمة بنصر ما، في تلك العاصمة المشرقية، سيتوجها لقاء مع رئيس الدولة العائد الى السلطة بعد ألف عام من العزلة.
في القصر الجمهوري شهدنا، فور وصولنا، عراكاً (شاركت الأيدي في إنعاشه) بين مراسم الرئاسة ومراسم الخارجية والعلاقات العامة في وزارة الاعلام!
وبعد أن سعينا (نحن الضيوف) فوفقنا إلى فض الاشتباك وقمنا بالفصل بين القوات، أبلغنا رسميا ان الرئيس سيستقبلنا للقاء مجاملة لا أسئلة فيه على الإطلاق!
أدخلنا الى قاعة استقبال، وكان حظي أنني كنت قريبا من الباب الجانبي الذي دخل منه الرئيس بعد دقائق، فحظيت بنعمة استقباله أولاً…
مددت يدي للسلام على »مناضل« قديم أعرفه منذ زمن بعيد، فإذا به يصرخ في وجهي: ترى أنا لست »حمَّاراً«! أنا رئيس دولة طويلة وعريضة، وعندي مسؤوليات خطيرة!! وأنا لا أملك وقتي لكي أبعثره كيفما اتفق! أنا رئيس جمهورية، ولا تفرض عليَّ المواعيد فرضاً!
كانت المباغتة أقسى مما توقعت، وصار همي أن أحجب الرئيس المشغول عن زملائي، لا سيما الأجانب منهم، وأن أقنعه بخفض صوته حتى لا يسمع أحد غيري هذا الخطاب الخطير… وظللت أسد عليه الطريق حتى هدأ قليلاً بعدما أكدت له أن أحداً منا لا يملك أن يفرض عليه موعدا، حتى وإن تمناه، وأننا لسنا مسؤولين عن إشكالات تسبب فيها ارتباك الموظفين.
تقدم الزملاء لمصافحة الرئيس المشغول جداً بهموم شعبه، وحين بادره واحد منا يسأله عن صحته جاءه الرد قاطعا: لا أسئلة! لا أجوبة! لا استفسارات، فلا يحاولن أحد منكم التذاكي وفتح أبواب جانبية لحوار لن يكون!
بعد محاولات عدة لاستدراج السيد الرئيس باءت جميعها بالفشل، ارتفع صوت صحافي أجنبي يقول متوجها إلى المترجم الرسمي: أنا من اسكتلندا! وقد جرت الانتخابات النيابية مؤخرا في المملكة المتحدة، فسقط حزبنا، وربح »العمال«. فإذا أراد الرئيس أن يعرف كيف جرت اللعبة ولماذا خسرنا وفاز خصومنا فأنا مستعد لأن أشرح له الظروف والملابسات..
كانت الكلمات تنضح لؤما وسخرية، وغطى عرق الحرج (أو الخجل) وجوهنا، وتعاظم خوفنا من أن يقدم »الرئيس« على »تأديب« هذا الذي يهزأ به.. لكننا فوجئنا بهذا المسؤول الكبير المشغول جداً والذي لا يملك وقتاً للصحافة، يقول للمترجم: حسناً، فليشرح لي ما جرى.
وعبر الشرح، تسلل زميلنا الاسكتلندي بمجموعة من الأسئلة الدقيقة والمحرجة فأجاب عنها الرئيس جميعا هادراً أكثر من ساعتين من وقته الثمين المخصص لخدمة شعبه الذي يسمع بالانتخابات ولا يعرف كيف تمارس!
* * *
في الزمن الجميل، ساهم الحدث العربي الكبير في صنع العديد من الصحافيين الكبار، أجانب وعرباً. وبالتأكيد فإن اريك رولو، المصري المولد، الفرنسي النشأة، كان أحد هؤلاء الذين أضاف إليهم تعاطفهم مع الموقف العربي، وقربهم من القادة العرب الكبار، وبالتحديد جمال عبد الناصر.
وليست مبالغة أن يوصف عبد الناصر بأنه واحد من أهم »رؤساء التحرير« في عصره، فلقد كان صاحب عقل إعلامي ممتاز، وكان أحد أوائل المسؤولين العرب الذين وعوا قيمة الاعلام والاعلاميين، فأفاد منه كثيرا في خدمة القضايا التي كان يؤمن بها ويعمل لها.
أما »القادة الصغار« الذين وصلوا إلى الحكم بالوراثة أو بالمصادفة، ناهيك بالتآمر، فقد انصرف جهدهم إلى تصغير الصحافة والصحافيين في بلادهم بحيث تكون مجرد بوق ويكونون مجرد »مصورين«، لأن أي »كبير« سيكشف صغارتهم وضحالة معرفتهم وانعدام ثقافتهم ناهيك باحتقارهم للرأي العام والحريات وبينها حرية التعبير أو حرية القول.
وها نحن نعيش في عصر الأقزام على مختلف المستويات: لا حركة سياسية، لا صراع أفكار ومبادئ وإرادات، لا مؤسسات للحرية ولا ضمانات لأصحاب الرأي، فمن أين تجيء الصحافة ويجيء الصحافيون الكبار؟!
ولقد كشفت المقابلة التلفزيونية مع اريك رولو الفارق الهائل بين صحافة زمن القادة الكبار، صنّاع التاريخ، وصحافيي الزمن الرديء الذين لا يعرفون، والذين بلا ذاكرة، والذين يحاولون تصغير الكبير ليستطيعوا أن »يحاوروه« حول ما لا يعرفون.
الفرح ينبت الربيع الثاني
يتقدم موكب الفرح وئيداً ليحفظ له جلاله، وتتراجع الأحزان إلى الظل، ويرتفع الصوت مؤذناً: حيّ على الحياة! حيّ على أبناء الحياة!
لا موعد للحزن، اليوم، لا موعد غدا. الحزن في إجازة قصيرة.
إنه زمن الفرح. إنه شبابك الذي لم يضع وقد تجمع الآن نهراً من لبن وعسل يروي العطاش وأبناء السبيل الذي جئت منه.
لكم يشبهك الفرح. إنه بلون عينيك!
إنه بطعم السهر والتعب وعرق العافية المستعادة.
يلد الحب الفرح. يلد الفرح الجمال. يلد الجمال الشباب. يلد الشباب زماناً جديداً يعوض ليالي القلق والموت المؤجل وعذاب السهاد في لجة اليأس.
خلقتِ لتكوني الفرح، فاقتحمتِ به البيوت توزعينه على الناس البسطاء الذين يعرفونك ولا تعرفين،
خلقتِ لتكوني الحب، فأعطيتِه للجميع، ولم تستبقي منه ما يكفي وجبة المساء، وها هم يأتون الى عشائك وقد امتلأوا بك.
الفرح مشاع، اليوم، الفرح في الطرقات. الفرح يتدلى مع نور المصابيح، وينبت الربيع الثاني في جنبات الأرض جميعا.
الفرح همّ الناس.
وللفرح عينان خضراوان بلثغة عسلية.
حجاب في الحلبة
الحلبة ضيقة لا تتسع إلا للفتية الذين يطاولون بأذرعتهم تخوم النجوم، والذين يحفظون بخبطة أقدامهم توازنات الكون!
نزل الحجاب إلى الحلبة فصارت مدى مفتوحا للنشوة، يغرف منها الجالسون فيرتوون.
تخطى الإيقاع الحجاب، فتخطى الحجاب الإيقاع وخرج الجسد الفتي حراً عفياً يعلن حضوره الطاغي: أنوثتي هنا، فأين هم الرجال!
اهتز الصدر رياناً، والتمعت في العينين أشباح الشياطين. يستطيع الملائكة أن ينتظروا خارجاً.
ارتج الجذع، فارتج صف الراقصين، وصار الحجاب رمزاً فاقعاً للجنس يؤكده بدل أن ينفيه.
في الرقصة التالية كان رأسها قد نسي الحجاب، وكان جسدها قد تحرر نهائيا منه. صار مجرد خرقة مهلهلة حطت بالمصادفة على الأكثر أنوثة من بين الحاضرين، في لحظة غفلة، فلم تنتبه إليها ولا يعنيها أبداً أن تتعلق بها أبصار المشفقين من هذا التناقض بين القمة والسفح.
احتلت الحلبة كلها. لم تعد ترى أحداً أو شيئاً، ولم يعد المحتفلون يرون غيرها. إنها ساعتها، ولا تريد أن تفسدها بوجوه الآخرين. طارت حتى لامست حوافي السماء.. ورفت بجناحي الامتلاء حتى سكرت عيون القاعدين.
حمحم صديقي: الله! الله جميل ويحب الجمال!
غطى الحجاب المنظر كله، وصمت الإيقاع، وهربت الأنثى تاركة الوحشة تحتل الحلبة بعدما طردت منها المرأة الوحيدة بين جمهرة النساء الحاسدات اللواتي كنّ قد أكلن لحمها نيئاً، بشيء من التشفي والانتقام من رجالهم الذين صاروا فجأة نباتيين!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهن إلا الحب:
أحس بالذنب إذا مضى يوم دون أن أقدم لحبيبي ما يزيده كبراً. أن تحب ليس أن تشغل حبيبك بالتفاصيل السخيفة، بل أن تساعد على توسيع أفقه. أفرح كلما قدمت إلى حبيبي كتاباً جديداً، أو قرأت عليه قصيدة جميلة، أو أريته منظراً رائعاً…
الحب ليس الجمال. إنه القدرة على رؤية الجمال.
ومَن يقول إن الحب يلغي العقل كاذب أو حقود.
الحب يأخذ من العقل إلى القلب فيزيده رقة، ويأخذ من القلب إلى العقل فيغنيه.
أنا أحب بعقلي، وأفهم بقلبي… وهذه هي السعادة.