عالمقهى في باريس، والصوت من دمشق، والعباءة صحراوية العينين، والخادم أسباني، والحديث عن العراق، وشبح اسرائيل يملأ الافق، والزوايا محجوزة للراطنات بفرنسية متأنقة مخترقة في ثناياها بالكلمة الكاشفة للهوية »يعيِّشك«!.
الكلام نثار خشب، يتطاير في الهواء مسببا السعال وشيئا من الغصة.
سقطت صورة المنفى بالتقادم وبطغيان الهم اليومي الذي يأخذك إلى الابتذال: لست بطلا، ولست شهيداً. لست مرتزقاً تماماً ولكن الرزق يبعدك عن صورة الضحية. يأخذك الرزق إلى »الخصم«. ويأخذك »الخصم« إلى طاغيتك بالتماثل. وحدك من يضيع بين الجلادين، فتخسر من ذاتك ويربح كلاهما.
النكات قديمة، لزجة… لكن قائلها الذي لا يتعب من تكرارها يضحك كثيرا كلما استعادها. لعله يهرب من الجرح الجديد النازف. ولكن اين هو الجرح الجديد في هذا الجسد المثخن بسواقي الالم الغائرة كندوب قديمة، كمجار جففتها الحسرة وكتب فوقها النسيان سيرته الذاتية.
يستفيق مع الصباح. يلبس نهاره ويتأبط ليله ويدور كالناظر يجري التفقد. يشتم العائدين الذين أخذهم منه التخاذل، ويلعن الباقين الذين ادخرهم له ادعاء البطولة.
معلق بين المنفيين ولا وطن.
يرفع رأسه إلى السماء الماطرة: أليس في جنباتها الرمادية متسع لغرفة وحمام؟!
يلمح صديقاًٍ في زاوية المقهى الآخر، يندفع إليه مشوقاً: متى وصلت؟!
والوصول أمنية خلف مثوى الحلم. لقد ابتعد أكثر. لكن المسافات لم تعد هي معيار البعد او القرب.إن اخاه هناك، في البيت العائلي. لكنه أبعد منه هو هنا، عن الوطن. الوطن ليس فقط جغرافيا. الوطن قلب وخبز وذاكرة وحبيبة وأطفال يلعبون ويتقافزون في الشارع، ثم يجلسون إلى المائدة فيلتهمون ما فوقها ولا يشبعون، ويتعاركون فترفرف السعادة قبل ان تختار زاوية لتهجع فيها طلباً للدفء.
لا محطة للوصول، ولا طريق إلى المغادرة، والحياة أقصر من ان تمضيها معلقاً بين بداية سقطت سهواً وبين نهاية تتعثر ولادتها فلا تعرف لها ميعاداً.
الوطن لا عيش في محطة المترو.
المقهى أضيق من أن يتسع للأحلام.
والمكتبة جلابة البكاء… كلما درت بعينيك بين رفوفها المثقلة بكتابات المشغولين بهموم أوطانهم أحسست بأنك مجرد خائب، يريد ان يأخذ دائماً ولا يملك ما يعطيه.
كيف تستطيع أن تتحرك كل هذه الطوابير من البشر خارج المكتبات والكتب؟!
إذا كانوا لم يقرأوا فكيف يعرفون تدبير أمور حياتهم؟!
وإذا كان العلم في الداخل والجهل في الخارج فكيف اذاً سيبنى الوطن وبمن؟!
لا يسأل الصديق من أين أتى.
فقدت العواصم ملامحها المميزة.
كل الخارج بُعد. كل الخارج غياب. كل الخارج اندثار.
يقول الصديق إن اليأس انتحار، وإن علينا دائماً أن نخترع الأمل.
طرب لفكرة أن يدفع باليأس الى الانتحار، وأن يجعل الأمل يخترع وطناً ومواطنين.
قال للصديق إنه لا يملك ما يدعوه إليه.
وقال الصديق إنه لا يملك وقتاً لكي يعطيه منه.
ولما جاء ذكر »العوائل« سيطرت كلمة »الله« على الحوار.
وفي حضن »الحمد لله« تعانق الصديقان، وقصد كل الى »الخارج« الذي ارتضاه منفى فرفضه منفياً، وفرغت طاولة أخرى في المقهى الذي ينقلب وطناً كلما توقفت أمامه سيارة أجرة، أو أفرغت قاطرة مترو شحنتها من الضائعين الذين يتجلببون بعباءات صحراوية العينين.
ابن الرشيد بين الفن والحقيقة
يحمل اسما مكلفاً، محمد طلال الرشيد، إذ يلزمه أن يحمل معه صحراءه و»مجدها التليد« حتى وهو يتوغل في قلب العصر، عبر جامعاته الممتازة، أميركية وبريطانية، بعد أن اخرج »مدرسة برمانا« على تقاليدها، وكاد يخرجها من مكانتها على جبل الصنوبر المتكئ الى بيروت وبحرها المتوسط، والمتحصن في قلب سلسلة الهضاب التي تتعالى حتى تتوج ذاتها بقمم صنين.
هو حفيد »ابن الرشيد« الذي لولا بعض المصادفات القدرية والكثير من المناورات والحسابات السياسية للقوى الاستعمارية »القديمة«، وبريطانيا أساساً، لكان له شأن آخر في الجزيرة العربية، ولربما كان…
ما لنا وللماضي وذكرياته التي تجرح الحاضر.
المهم ان محمد طلال الرشيد يحاول، عبر الكتابة واثبات الكفاءة، ان يحرر نفسه من أعباء اسمه مقدما عليه قلمه. ليرقد جده بسلام، وليحاول هو بسن القلم أن يشق طريقه إلى غد يصنعه بجهده لا بنسبه.
في »خيوط الزعفران« يقدم محمد طلال الرشيد نفسه كراوية، مستعيداً ذكريات فتوته وشبابه الأول معتمداً نهج الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه: »الفن ولا شيء غير الفن! نحتاج إلى الفن كي لا نموت من الحقيقة«!
الحقيقة في الاسم. الفن في القلم. اذن فليكن القلم هو الملجأ، وليكن الحديث عن »مارتن« وعن »خيوط الزعفران« حتى لا يكون عن »القصر« وعن »سيد القصر« ومرضه القاتل غيره قبل أن يقتله.
يعيش العربي بذاكرته غالباً، وفيها أحياناً.
ومحمد طلال الرشيد يمتلك ذاكرة حادة التنبه إلى التفاصيل، وهي لا تهمل شيئاً ولا تنسى تفصيلاً…
ثم إنه يملك أسلوباً سردياً سلساً، يغريه بالإطالة كما يثيرك فتتابعه لكي تستكمل الحكاية، ململماً من بين ثناياها وعبر الجمل المعترضة او الاستدراكات، الكثير من الوقائع والأسماء التي لولا ضيق الوقت لقامت بذاتها حكايات جديدة.
ولأن محمد طلال الرشيد هاوٍ وليس محترفاً يعيش من قلمه.
ثم لأنه صاحب اسم رنان تحتسب عليه الهنات الهينات، كالإسقاطات السياسية أو الإيحاءات التي قد يساء تفسيرها.
ولأن »الاسم يحكم« أحياناً.
لهذا كله فإن هذا القلم الشاب المتدفق حيوية يختار موضوعاته بحذر شديد، ويكتب بعناية فائقة مدركاً أن كلماته ستقلب ظهراً على بطن، وستنقب طياتها، وستستجوب طويلا… وربما لهذا أيضا فهو يستفيض في السرد، وفي الشرح، وفي التحديد الدقيق للأماكن والملامح، ويكاد يعطي لكل »بطل« من أبطال قصصه »شهادة ميلاد« مع سيرة حياة تفصيلية حتى لا يساء الفهم أو لا يتهم الكاتب بسوء القصد.
»نحتاج إلى الفن كي لا نموت من الحقيقة«.
ولكن ماذا نحتاج يا ابن الرشيد لكي نعيش في الحقيقة ومنها؟!
سمعت النهر يغنيكِ
لم يغيِّبكِ الغياب ولم يبعدك البعد، وظللت أرى بعينيك وأكاد أهتف بصوتك صيحات الإعجاب او الدهشة او التحسر على إزالة مكان حميم!
ما أعظم حضورك، انتِ النحيلة حتى التهافت، المقيمة في قلب الوجع والمنتشرة مع الشمس أشعة من الفرح الصبياني النبيل.
في كل خطوة ألمحك: أمامي، خلفي، إلى يميني، إلى يساري… وحين أهرب ببصري إلى فوق، ويتلقى وجهي ذلك الرذاذ الصباحي المنعش، أسمع ضحكتك المعابثة القصيرة، أما إذا شدت عيني انثى تلهب الرصيف بعريها اللامع تحت معطفها الثقيل فسرعان ما تمتد يدك لتغلق من على بعد عيني على طيفك وحدك.
بلغت أول الجسر فكنتِ عند طرفه الآخر، تقدمت فتواريت، لكن ملامحك أعارت رونقها لماء النهر فسمعته يغنيك.
أفتح الصحيفة فأرى قلمك وقد مر على كل صفحة معترضاً، ناقداً، وممزقاً أحياناً، فأرميها لأمسك بالكتاب حيث تساكنين الفكرة المبدعة وتعيدين صوغ العبارات الأنيقة لكي ينتشر منها المعنى إلى الناس المثقلة رؤوسهم بهمومهم فتفتحين أمامهم آفاقاً كانت مقفلة وكانوا يقفون أمام أبوابها متحسرين.
أراك تدورين حول نفسك وتخافين من أفكارك المبعثرة كورد منثور يختلط فيه الشوك بالعطر فيتهاوى المعنى.
تغضبين من نفسك فتثورين على الآخرين، ثم تنطوين على سرك الصغير متصاغرة، ومن عينيك ينبثق ذلك الشعاع القدسي فيضيء حنايا الصدر بالأمل ويزهر غد أخضر.
تطلين من خلف العتاب، وألتحف اسمك، تغمزين فلا أستطيع الاقتراب، وتغضبين فلا أستطيع الابتعاد، ونتكامل عبر فجوة الألم حيث نقف مرتبكين بينما تتهاوى ادعاءات البطولة ولا يتبقى غير حبي يحيط بك بحراً بلا ضفاف.
أمشي في الشوارع ذات الشجر. أفتقد الزهر، لكن أكمام البراعم تفاجئني بحروف اسمك وقد انطوت على خير الصيف الواعد بالثمر.
آدمي وطيب القلب
قالت بلهجة الشاكي القانط سلفاً من مردود شكواه: أنتِ تعرفين زوجي.. لا أمل يرتجى منه. إنه ضعيف، بلا إرادة، يعيش ليومه ولا يحفظ شيئاً لغده. أفٍ… لقد تعبت إلى حد اليأس!
قالت تعزيها: ولكنه معك دائماً وليس كزوجي الكريم، يغيب عني معظم اليوم ثم يجيئني تتقدمه رائحة الخمرة، ويقدم إلي اعتذاره التافه، ثم يخلد إلى النوم.
قالت مكمّلة »مناجاتها«: لطالما ساعدته، فوقفت إلى جانبه وشجعته. لطالما حذرته ممن حوله، وطلبت إليه أن يحفظ لسانه وقرشه.. لكنه كان دائماً يفرّط بهما معاً.
تابعت الأخرى تشكيها: خيره لبره زوجي العزيز. أسمع عنه الروايات كمغامر، ولا تتورع بعض النسوة عن إظهار حسدهن لي لأنني حظيت به من دونهن!
قالت وقد سمعت آخر كلمات صديقتها: حظيت به؟! بل هو مَن كان حظه من السماء! لقد حفظته وصنت عرضه وبيته… فماذا لقيت منه؟ ماذا كانت مكافأتي؟! أنام وحدي في صحراء البرد، ويظل بعيداً عني، متردداً، إلى أن أصيح به أن تعالَ فيجيء فرحاً كطفل، وأتركه يعبث بي وخوفه ظاهر في يده، في زفراته، يكاد يحرمني متعة الاشتراك في النشوة.
تابعت الأخرى وكأنها لم تسمع إلا الكلمة الأخيرة: النشوة؟! ليس لي منه آخر الليل إلا الشخير والهذيان بأسماء النساء الأخريات. لقد نسيت كيف تكون النشوة. أحياناً أستعيرها من الأفلام. أكثر من مرة ضبطت نفسي أدور بجهاز التحكّم بين المحطات الأجنبية الفضائية حتى أجد عرضاً لمشاهد طالما تمنيت أن أكون بطلتها، وفي داخلها، لا مجرد متفرجة من الخارج.
قالت وقد انتبهت إلى أن الكلام قد أوغل بعيداً في الحميم الذي لا يجوز كشفه: لكنه طيب وابن حلال، ولا يقيد حركتي مطلقاً. أذهب حيث أشاء، أعاشر من أشاء، أغيب متى عنّ لي الخروج. تُرى كيف كنت سأعيش في ظل رجل قاس في الحساب، وشديد في العقاب؟!
استدركت رفيقتها: وزوجي أيضاً طيب وابن حلال. تصوري لو كان كلاهما زوجاً مثالياً كما تصفه الأمهات، إذاً، لضاع عمرنا هدراً، ولما استطعنا أن نعيش براحتنا وبحريتنا.
وهبت كل منهما إلى هاتفها الخليوي تتصل بزوجها تطمئنه إلى أنها لن تتأخر كثيراً لدى… الطبيب المداوي!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا ترى نفسك كبيراً إلا بالحب، ولا يأخذك إلى الصِغِر الا افتقادك إلى الحب.الحب يمنحك الشجاعة، والضعف يكسرك متى افتقد قلبك دفء الحب. هل تستذكر صور مشاهير المحبين عبر التاريخ… كان الواحد منهم نحيلاً على الأغلب، فقيراً، ولم يأتِ بالخوارق، ولكنه بحبه استوطن قلوب الناس جميعاً. حتى اليوم ما زلت تجد من يشفق على حال قيس بن الملوح، وقد يطلق اللعنات على »ورد«.
لمح آثار دهشة على وجهي، فأضاف »نسمة«:
الحب الحب يفتح لك القلوب جميعاً. من دخل الحب قلبه زرعه في صدور الناس وجعله لهم مثلاً أعلى.
المحبون أعظم خلوداً من جميع أباطرة الزمان ومن كل الذين ماتوا وخلفوا ثرواتهم للذين كانوا يسمونهم »كلابا«!!